ترك برس
دخل العثمانلية مصر، وأضحت هذه البلاد تابعة بعدما كانت متبوعة، صارت مجرد ولاية من الولايات بعدما كانت المركز والثقل، صار يحكمها الباشا الـمُرسل من إسطنبول بعدما حكمها سلاطين الأيوبيين والمماليك من القلعة، ومن قبلهم الفاطميون في القاهرة، فهل أثّر ذلك في لغة العلوم والمعارف والثقافة؟.
تلك مسألة يتكئ عليها الممجدون للتاريخ القومي الضيق، لقد رأوا أن العثمانيين تجاهلوا اللغة العربية في دواوينهم وقصورهم ومقر حكوماتهم، وصارت الدفاتر اليومية، وقوائم الخراج والأرزاق والإقطاعيات، والمناشير والقرارات كلها تُكتب باللغة التركية، وهذا صحيح، لكن السكوت عنه دون تبيان صورة الحياة عامة في ذلك العصر تدليس لا شك فيه.
يرى الباحث في التاريخ و التراث، محمد شعبان أيوب، أن هذا الذي قيل إنما كان في إطار الحياة السياسية بين السلطان وولاته وموظفيه، لكن الثقافة والعلوم والمعارف ظلت كما هي باللغة العربية، ففي وثيقة عثمانية مؤرّخة بعام 973هـ/1565م برقم (2803 – E) في أرشيف طوبقبو سراي بإسطنبول، نجد قائمة بالكتب الموزّعة على المدرسين في المدارس العثمانية، وبيانها كالتالي:
في التفسير: الكشاف للزمخشري، وتفسير القاضي البيضاوي، وتفسير القرطبي، وتفسير الكاشاني، وتفسير الأصفهاني، وسعد الدين وقطب الدين، وفي الفقه واللغة: الهداية للميرغناني، والنهاية، وغاية البيان، وفتاوى قاضي خان، والبزودي، وشرح النووي على صحيح مسلم. وهي كلها باللغة العربية، وفي مجال الثقافة الإسلامية المكتوبة باللغة العربية تحتل الأسماء العثمانية مكانة كبيرة مشهودة لها سواء على مستوى التأليف أو مستوى كثرة الإنتاج وغزارته.
ويشير أيوب في مقال تحت عنوان "العلم في مصر العثمانية بين التركية و العربية"، إلى أنه "من حسن حظّنا أننا نملك مؤلفات ببليوجرافية قيّمة أُلفت في العصر العثماني أشهرها كتاب «كشف الظنون عن أسامي الكتب والفنون» لـ كاتب جلبي المعروف بـ حاجّي خليفة، وهذا الكتاب اجتمع فيه من أسماء الكتب 14500 كتاب، ومن المؤلفين 9500 مؤلف، وتناول فيه نحوًا من 300 فن وعلم، وقد حوى كشف الظنون عيون المصادر في الفكر الإسلامي مما صنّفه أصحابه باللغة العربية وبغيرها من لغات المسلمين مثل الفارسية والتركية".
ويبيّن أيوب أن من أشهر مصادر التراجم العثمانية كتاب "الشقائق النُّعمانية في علماء الدولة العثمانية"، ومؤلفه هو طاشكوبرى زاده، عصام الدين أحمد بن مصطفى، وهذا الكتاب ألفه صاحبه أصلاً باللغة العربية ثم ترجمه إلى اللغة التركية. وفي مقدمة تحقيقه يلفت المحقق الدكتور صبحي فرات أنظارنا إلى "أن القسم الأكبر من تلك الشخصيات التي احتواها هذا الكتاب، كانوا قد خلّفوا مؤلفات كثيرة في مجال العلوم الإسلامية كالفقه والتفسير والحديث وعلم الكلام والأدب، وهذا ما يُظهر لنا قوة نمو وتطوّر العلوم الإسلامية باللغة العربية على الساحة العثمانية من القرن السابع إلى القرن العاشر الهجري. أي من القرن الثالث عشر الميلادي حتى القرن السادس عشر الميلادي".
ويُضيف المؤرخ الدكتور محمد حرب، وهو من المتخصصين المهمين في التاريخ العثماني: "أن تطور العلوم الإسلامية باللغة العربية على الساحة العثمانية امتد بعد ذلك إلى نهاية القرن العشرين". على أننا لا ننفي أن كثيرًا من المصادر التي كتبت في الحقبة العثمانية كتبت باللغة التركية، بما فيها لغة الكتابة في الدواوين الرسمية، لكن اللغة العربية ظلت كما هي دون تأثير سلبي من قِبل السلاطين والولاة العثمانيين.
وتحت عنوان فرعي "مصر من المركزية إلى التبعية"، يقول أيوب إن مصر ظلت لأكثر من خمسة قرون ونصف مركزًا من مراكز الثقل في العالم الإسلامي، ومنذ سقوط بغداد على يد المغول في عام 656هـ وسقوط الأيوبيين في مصر سنة 648هـ، ثم سقوطهم في الشام في عام 657هـ، ثم إحياء منصب الخلافة من جديد وتحول العباسيين من بغداد إلى القاهرة في عام 659ه،ـ كل ذلك دفع القاهرة لأن تكون عاصمة العالم الإسلامي طوال قرنين على الأقل فيما بعد.
هذان القرنان اللذان بدآ منذ منتصف القرن السابع الهجري وحتى الثلث الأول من القرن العاشر الهجري، وهما عصر المماليك شهدت مصر فيهما نشاطًا علميًا وتجاريًا ودبلوماسيًا وسياسيًا وعسكريًا قلّ أن رأيناه من قبل في تاريخها. ففي لحظة واحدة كان المماليك يُقاتلون المغول والصليبيين وينتصرون عليهم، ويُجلون الصليبيين للمرة الأخيرة من عكا في العام 690هـ بعد احتلال دام قرنين لبلاد الشام والقدس، قبل أن يعودوا مرة أخرى بعد ستة قرون مع ضعف الدولة العثمانية وانهيارها، مع دخول قوات اللنبي فلسطين في الثلث الأول من القرن العشرين، ودخولهم القاهرة في الثلث الأخير من القرن التاسع عشر، وهي ذات اللحظة التي كان يفدُ إليها علماء الأقطار من وسط آسيا والأناضول والمغرب والأندلس، يتعلمون بين جنباتها، وينهلون من علمائها، ويستمتعون بمجالس المناظرات والتنافس الثقافي والعلمي فيها.
كانت لغة العلوم في مصر هي العربية؛ فهي لغة القرآن، ولغة العلوم الشرعية، والعلوم العقلية، وحتى العلوم العسكرية التي شهدت تطورًا ملحوظًا وكتابات جديدة في العصر المملوكي، وحتى ظهور بعض المعاجم التي ساعدت على تعريب بعض اللغات المنتشرة آنذاك في أقاليم العالم الإسلامية مثل المغولية والتركية إلى اللغة العربية.
هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!