ترك برس

ذهب المفكر التركي العريق "يوسف أق شورة" إلى الحج عام 1913، وكانت شعائر الحج في عهد الدولة العثمانية تشمل زيارة فلسطين ومن ثم الديار الحجازية، وكانت سوريا تمثل نقطة الانطلاق من بلاد الأناضول إلى فلسطين ومنها إلى الديار المقدسة.

وقد دوّن أق شورة ذكرياته الخاصة برحلته في إطار أدبي نشره في صحيفة "وقت" العثمانية التركية. لم يكتف أق شورة بالحديث عن زيارته للأماكن المقدسة، بل تناول كافة جوانب الحياة الخاصة بالمجتمعين السوري والفلسطيني، فتطرق إلى الفكر والأدب والصحافة والتعليم والصحة والعادات الاجتماعية وغيرها.

وننقل ذكريات أق شورة بإيجاز على النحو الآتي:

"الحرب العثمانية البلقانية الضروس ما زالت رُحاها دائرة، حيث تسعى دول البلقان إلى الاستقلال عن الدولة العثمانية العادلة التي لم يُذكر أنها ظلمت واحدا منهم، أما على الصعيد الآخر، فهناك الشرق الآمن حيث الديار المقدسة والأقوام المخلصة. انطلق اليوم من إسطنبول نحو الشام بشغف، حيث هناك أقوام عُرفت بصدقها وإخلاصها للدولة العثمانية، وأنا متلهفٌ للقائها والتعرف على ثقافتها وعادتها وحياتها."

"مررت بحلب فاستمتعت بمذاق حلوياتها وأكلاتها، أما أناسها فيحملون الكرم والصدق والوضوح ومد يد العون وغيرها الكثير من الصفات الحميدة، أما الشام فهي ملتقى الصحفيين والمفكرين والمثقفين أصحاب الإبداع، ولكن ما أحزنني في الشام؛ هو طغيان وجود المكاتب "المدارس" الفرنسية والإنجليزية على المدارس العثمانية، وعلى ما يبدو أن انشغال الدولة العثمانية بالحرب البلقانية تسبب في رفع وتيرة المطامع لدى هذه الدول التي تحاول أن تُنشأ جيل يدين لها. الناس لا تظهر عليهم إلا علامات الإخلاص للدولة العثمانية، ولكن استمرار الفرنسيين والإنجليز بفعالياتهم التغريبية سيخلق جيل بعيد عن الولاء للدولة العثمانية، وستجد هذه الدول لها حاضنة شعبية في حين أقدمت على احتلال هذه المناطق كما تم في قبرص وغيرها من المناطق، أسال الله إدامة اللُحمة في ديار المسلمين."

"محطتي الثالثة كانت بيروت التي أحزنتني ولم تشفق علي، حيث شبابها ومفكريها وأدبائها يتهمون الدولة العثمانية بالتقصير في دعم المسيرة التعليمية المعرفية في البلدان العربية، الأمر الذي اضطر شباب تلك البلدان إلى توجيه أنظارهم نحو الغرب الذي يدعم الفكر والإبداع والتقدم، حسب ما بينت لي نخبة بيروت. نخبة بيروت الثقافية أحزنتني ولكن دفعتني للتفكير مليًا حول الأسباب التي جعلت الدولة العثمانية تقصر في دعم الفكر الحضاري في البلدان الخاضعة لها؛ فكرت مليا ً فوجدت أن السلطان عبد الحميد الثاني ساهم بشكل كبير في دفع عجلة تطوير الفكر والمدنية في كافة ربوع الدولة العثمانية من خلال المحافظة على الاستقرار السياسي للدولة منذ توليه الحكم وحتى عزله عنه عنوةً، أما حكومة حزب الاتحاد والترقي التي تولت مقاليد الحكم في عهد السلطان الحالي "محمد رشاد" فقد أدخلت الدولة العثمانية في حالة وهن سياسية واقتصادية وعسكرية قاسية أثرت على الحياة العلمية الحضارية للدولة العثمانية، فأصبحت وجهة الشاب العثماني الثقافي ليست إسطنبول كما كانت في السابق، بل أصبحت أعينه تتجه نحو باريس، فالمسرح والسينما وكتب والملابس وحتى بعض الأطعمة في بيروت خلعت ثيابها العثمانية وارتدت الطابع الغربي الفرنسي."

"دخلت يافا، فرُدت إلي روح الأمل، حيث يرحب الفلسطينيون بنا بحفاوة، مشيرين إلى أننا ضيوف القصر العالي فلا بد من إحسان استقبالنا وضيافتنا، ولكن خرجت من يافا منطلقًا نحو القدس فمررت "بتل أبيب" وهناك عادت إلى روح الحزن، حيث هناك "اليد الأجنبية" الصهيونية التي لطالما حاول السلطان عبد الحميد الثاني صدها، ولكنها وجدت الفرصة الذهبية في التمدد والتهام أراضي فلسطين، بعزل السلطان الشامخ."

"وصلت إلى القدس حيث مهبط الأديان السماوية والكنيسة والمسجد والتسامح الديني الفريد. القدس مدينة عظيمة بتاريخها ومكانتها وبها تمكنت من استعادت معنوياتي؛ حيث رأيت سكانها يذكرون أسوار سليمان القانوني التي بناها من أجل تدعيم أعمدة المدينة وتحصينها ضد الهجمات الخارجية، وكما يذكرون الأسبلة والزوايا التي تناوب على إنشائها السلاطين العثمانيين، معبرين عن امتنناهم الشديد لذلك."

"وفي نهاية قصته؛ يؤكّد أق شورة أن حكومة حزب الاتحاد والترقي أهملت الجانب الفكري بشكل ملحوظ، وإن لم يتم تحاشي هذه الإهمال، فإن البلدان العربية المتخذة من إسطنبول عاصمة فكرية هي أيضًا ستولي وجهها قِبل باريس.

هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!