د. وسام الدين العكلة - خاص ترك برس
في الثاني عشر من أيلول/ سبتمبر 1980 اتصل ضابط أمن السفارة الأمريكية في أنقرة "بول هنري" بالرئيس الأمريكي حينذاك "جيمي كارتر" وقال له "سيدي الرئيس... لقد فعلها غلماننا" في إشارة إلى قيام مجموعة من الضباط الأتراك الذين جندتهم وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية بقيادة انقلاب عسكري أطاح بالحكومة التركية، بهدف مواجهة التيار الإسلامي الذي كانت قوته تتصاعد في البلاد ويدعو إلى قطع العلاقات مع إسرائيل وقيامه بتنظيم مظاهرات كبيرة منددة بضم القدس الشرقية إلى إسرائيل عام 1980.
وتزعم الانقلاب الجنرال "كنعان ايفرين" مع مجموعة من الضباط في الجيش التركي، وبرروا فعلتهم بضرورة حماية المبادئ الأساسية للجمهورية التركية كما وضعها "كمال أتاتورك"، ولاعتقادهم بأن سبب تدهور الامبراطورية العثمانية واندحارها عسكريًا، كان لارتباطها بالأقطار العربية والإسلامية، وتخوفهم من التنامي الملحوظ للتيار الإسلامي في الانتخابات التركية آنذاك.
في الخامس عشر من تموز/ يوليو 2016 حاول مجموعة من الضباط في الجيش التركي تكرار سيناريو انقلاب 1980 الذي يوصف في تركيا بأنه الانقلاب الأكثر دموية في تاريخ الجمهورية التركية إلا أن محاولتهم باءت بالفشل خلال ساعات رغم استخدامهم الطائرات وقصف المراكز السيادية في الدولة والسيطرة على عدد منها وعلى رأسها رئاسة الأركان والقنوات التلفزيونية الرسمية.
منذ اللحظة الأولى لانتشار الأخبار عن نزول الجيش إلى الشوارع وطلبه من المواطنين الأتراك التزام منازلهم وفرض الأحكام العرفية عبر البيان الذي نشرته وسائل الإعلام بدأت المواقف الداخلية والخارجية تتكشف شيئاً فشيئاً فهناك من حسم موقفه منذ اللحظة الأولى مع الانقلاب وحاول تصويره بأنه إنهاء لحقبة من الدكتاتورية التي يمارسها "أردوغان" ضد الشعب التركي كالقنوات التلفزيونية السورية والمصرية وبعض القنوات المحسوبة على الإمارات العربية أو السعودية إضافة للأغلبية الساحقة لوسائل الإعلام الغربية إن لم نقل كلها.
في حين وقف في الجانب المقابل بعض وسائل الإعلام العربية والتركية، والأهم الشعب التركي الذي نزل إلى الشارع بناء على دعوة من الرئيس التركي عبر تطبيق على الإنترنت (Face Time) بعد تعذر إجراء مقابلة مباشرة مع وسائل الإعلام كونه كان في إجازة خارج مقر عمله فكان تأثير هذا التطبيق أكبر بكثير من تأثير القنوات الفضائية التي تبث بترددات عالية الدقة (HD) وتنفق ملايين الدولارات سنوياً لنشر الأجندات التي تخدم جهات معينة أبعد ما تكون عن مصالح شعوب المنطقة.
على المستوى الرسمي الدولي تأخرت ردود فعل أغلب الدول بانتظار انقشاع ضبابية الصورة واكتفت بمراقبة تطورات الأوضاع المتسارعة لتحسم موقفها وهي تمنّي نفسها بنجاح الانقلاب، عشر ساعات من الانتظار كانت طويلة جدًا لتصل مسامع "أوباما" ذات الجملة التي سمعها سلفه "كارتر" لكن هذه المرة جاءت جملة ثقيلة في وقعها كالصاعقة على أذن أوباما "سيدي الرئيس... لقد اندحر غلماننا".
حتى الآن لا يوجد مؤشرات رسمية على ضلوع المخابرات الأمريكية في تدبير الانقلاب الفاشل أو التخطيط له بل أن الرئيس "رجب طيب أردوغان" كانت لهجته معتدلة وتصالحية نوعاً ما مع الولايات المتحدة خلال لقائه مع قناة الجزيرة وشدد على أن ما حدث لن يؤثر على العلاقات التي تجمع البلدين الحليفين، ويبدو أن الرئيس التركي أراد إرسال رسالة لواشنطن تتضمن التأكيد على عمق العلاقات بين البلدين، ويجب ألا يعكر صفوها امتناع واشنطن عن تسليم الداعية "فتح الله غولن" المتهم الرسمي وحركته بالوقوف وراء المحاولة الانقلابية، خاصة وأن هناك اتفاقية ثنائيّة بين البلدين تسمح بتسليم المجرمين.
كلنا يعرف أن سجل المخابرات الأمريكية مليء بتنفيذ العديد من الانقلابات العسكرية في آسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية وهي الراعي الرسمي للانقلاب الدموي في تركيا عام 1980 وآخر الاتهامات الموجهة لها رسمياً من الحكومة البوليفية أواخر عام 2015 بتدبير خطة أمريكية لقتل الرئيس البوليفي "إيفو موراليس" المعارض لتدخل الولايات المتحدة في سياسات دول أمريكا اللاتينية.
لكن عدم صدور أي بيان إدانة رسمية للمحاولة الانقلابية من قبل البيت الأبيض والاكتفاء بالقول إنهم "يدعمون الحكومة المنتخبة ديمقراطياً وضبط النفس وتجنب العنف وسفك الدماء"، يحمل الكثير من المؤشرات على علم الولايات المتحدة بالعملية الانقلابية والعناصر المخططين لها مسبقًا، فلا يعقل أن تعلم السفارة الأمريكية في أنقرة بنية شخص ما تفجير نفسه في أنقرة أو إسطنبول وتحذر من وقوع تفجيرات إرهابية ولا تعلم بمخطط كبير جداً لقلب نظام الحكم يضم قادة وضباط رفيعي المستوى في الجيش التركي من بينهم قائد قاعدة "إنجيرليك" الجوية المشتركة مع القوات الأمريكية.
ناهيك أن أغلب ضباط الجيش التركي يتلقون تدريبات وبعثات خاصة إلى الأكاديميات العسكرية التابعة لحلف "الناتو" وبعضهم من الموالين للغرب بشكل عام وللولايات المتحدة بشكل خاص ويعارضون سياسة الرئيس أردوغان على المستوى الداخلي أو الإقليمي، ولا بد أن بعضهم حصل على ضمانات أكيدة بالحصول على اللجوء السياسي إلى الولايات المتحدة في حال فشل المحاولة ووعود بالضغط على الحكومة التركية لإطلاق سراحهم في حال اعتقالهم.
ما يؤكد وجود خيوط غربية في التخطيط للانقلاب قيام الحكومة الفرنسية بإغلاق بعثاتها الدبلوماسية في تركيا قبل أيام من محاولة الانقلاب، والمواقف الأوروبية الداعية إلى وقف حملة الاعتقالات التي تنفذها الحكومة التركية بعد فشل المحاولة وهو ما عبر عنه وزير الخارجية الفرنسي "جاك مارك إيرولت" بقوله إن محاولة الانقلاب في تركيا لا تعني منح الرئيس أردوغان "شيكًا على بياض" ودعوته إلى احترام القانون وكأن المحاولة الانقلابية تمت وفق للطرق والمسارات الدستورية.
المحاولات الأوروبية للدفاع عن الانقلابيين أصابت الحكومة التركية بصدمة كبيرة خاصة وأن بعض التصريحات ذهبت إلى أنه إذا ما أعادت الحكومة العمل بعقوبة الإعدام فأن ذلك سيؤثر على مسألة انضمام تركيا إلى الاتحاد الأوروبي وظهر الانزعاج التركي من هذه التصريحات جليًا في حديث أردوغان عندما أشار إلى أن "الاتحاد الأوروبي ليس كل العالم" وأنه لا يحق للأوروبيين منح تركيا دروس في الديمقراطية واحترام القانون وحقوق الإنسان.
وتجدر الإشارة إلى أن الجنرال "كنعان أيفرين" قال في كلمة له سنة 1984 في إشارة إلى الذين أعدموا بعد الانقلاب "هل كان علينا أن نطعمهم في السجن لسنوات بدلًا من أن نشنقهم؟". وبعد سيطرت حزب العدالة والتنمية على الحكم في البلاد منذ عام 2002 بدأت أصوات أهالي الضحايا في انقلاب عام 1980 تنادي بضرورة محاكمة المسؤولين عن انقلاب 1980 واعدامهم إلا أن الدستور الذي وضعه هؤلاء كان يمنحهم حصانات تحول دون محاكم تهم واستمر الأمر حتى عام 2012 حيث تم قبول أول دعوى ضد الذين ما زالوا على قيد الحياة من الانقلابيين وهم الجنرال "كنعان إيفرين" و"تحسين شاهين كايا" قائد سلاح الجو عن جرائمهم في انقلاب 1980 وتم عقد أول جلسة محاكمة في نيسان/ إبريل 2012، واستمر المحاكمة إلى أن توفي ايفرين في المستشفى العسكري في إسطنبول عام 2015.
أخيرًا، نقول إنه إذا كان اعتقال مجموعة من الأشخاص المتورطين بقتل مواطنين عزل في الشارع وتدمير وقصف منشآت سيادية لها رمزية كبيرة لدى الشعب التركي ومحاولة قتل رئيس الجمهورية المنتخب ديمقراطيًا تحتاج إلى "شيك على بياض" من الدول الغربية!! فكم من الشيكات البيضاء أعطاها هؤلاء لبشار الأسد لقتل أكثر من 600 ألف مدني وتهجير وتشريد نحو 12 مليون مواطن سوري وتدمير سوريا عن بكرة أبيها وبيعها في أسواق النخاسة الدولية؟؟
هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!
مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس