د. وسام الدين العكلة - خاص ترك برس
ما شاهدناه خلال الأيام الأخيرة في طريقة التعاطي الأوروبية تجاه الفعاليات الشعبية التي كانت ترغب الحكومة التركية في إقامتها لشرح التعديلات الدستورية وما يترتب عليها من آثار إيجابية في حال إقرارها لا يمكن تصديقه، خاصة وأن الأساليب الفجة التي اعتمدتها بعض الدول الأوروبية لمنع قيام هذه الفعاليات غير مبررة على الإطلاق وتتنافى مع سلسلة طويلة ومعقدة من المعايير والقيم التي يقوم عليها الاتحاد الأوروبي تتعلق بالديمقراطية واحترام حقوق الإنسان وسيادة القانون وحق التظاهر وحرية التعبير، الأمر الذي أثار العديد من التساؤلات حول ازدواجية المعايير التي تنتهجها دول الاتحاد الأوروبي فيما يتعلق بحرية الفكر وحق الإنسان في اختيار نظام الحكم الذي يراه مناسبًا.
لم يقتصر الأمر على منع لقاء المسؤولين الأتراك مع مواطنيهم في أوروبا وحظر إقامة الفعاليات الشعبية المؤيدة للتعديلات الدستورية بل ذهبت هذه الدول إلى السماح بإقامة فعاليات مضادة نظمتها أحزاب معارضة وفي ذات الأماكن الهدف منها التأثير على الرأي العام التركي للتصويت بـ "لا" لهذه التعديلات وتخصيص حملات إعلامية وبرامج تلفزيونية تشرح بشكل مزيف ومخالف للحقيقة ما تضمنته هذه التعديلات وصولًا إلى الضرب بالهراوات وإطلاق الكلاب البوليسية على المواطنين الأتراك الذين تظاهروا في "روتردام" للمطالبة بلقاء وزيرة الأسرة والشؤون الاجتماعية فاطمة بتول سايان كايا التي تم اعتقالها على بعد أمتار قليلة من القنصلية التركية وتم ترحيلها لاحقاً إلى بلادها عبر ألمانيا في انتهاك واضح لجميع الأعراف والمعاهدات الدبلوماسية.
لكن ما هي الأسباب الحقيقية لانحياز بعض الدول الأوروبية الواضح ضد التعديلات الدستورية التي ترغب الحكومة التركية بتمريرها في الاستفتاء الشعبي منتصف الشهر القادم؟
طوال مئة وخمسين عامًا ماضية تعرضت تركيا لسلسلة من المؤامرات بهدف القضاء عليها وتفكيكها وقد نجح الكثير منها خاصة فيما يتعلق بإلغاء الخلافة الإسلامية ومحاولة سلخ تركيا عن محيطها الإسلامي وإضعافها وإلحاقها بالنمط الأوروبي وممارسة وصاية أوروبية عليها وتحويلها إلى ساحة لمنع التمدد الشيوعي تجاه أوروبا مقابل تقديم وعود جوفاء تتحدث عن إمكانية انضمام تركيا للاتحاد الأوروبي استمرت نحو 30 عاماً دون تحقيق أي تقدم ملموس في المفاوضات بين الجانبين ويعود ذلك لأسباب كثيرة على رأسها وجود مخاوف سياسية لدى دول الاتحاد من أن تتحول القضايا الإسلامية في تركيا إلى قضايا أوروبية نظرًا لأن الديانة الرئيسة في تركيا هي الإسلام، إضافة إلى معوقات ديمغرافية واقتصادية وأمنية.
الأمر الأخطر هو دعم أوروبا لأي خطوة من شأنها منع أي حزب إسلامي من تبوء مقاليد السلطة في تركيا ولو تم ذلك عبر الانقلاب العسكري وهو ما يبرر كثرة الانقلابات التي شهدتها الجمهورية التركية منذ نشأتها عام 1923 وآخرها المحاولة الانقلابية الفاشلة في الخامس عشر من تموز/ يوليو الماضي حيث جاءت ردة الفعل الأوروبية حذرة وباردة وشكلية وتأخرت أغلب العواصم الأوروبية عدة ساعات في إدانة محاولة الانقلاب، الأمر الذي تسبب بصدمة للمسؤولين الأتراك وأثار حفيظتهم واستياءهم.
في حين شهدت الأيام التالية انتقادات أوروبية واضحة لما قامت به الحكومة التركية وصلت إلى تصويت البرلمان الأوروبي في تشرين الثاني/نوفمبر الماضي لصالح قرار يطالب المفوضية الأوروبية وحكومات ثمان وعشرين دولة هي أعضاء الاتحاد بتجميد مفاوضات انضمام تركيا مؤقتاً، بسبب الإجراءات الأمنية وحملة الاعتقالات التي اتخذتها الحكومة التركية عقب محاولة الانقلاب الفاشلة الأمر الذي زاد من الاستياء التركي، ودفع المسؤولين الأتراك لاتهام الأوروبيين بالتحيز والتحامل.
لا شك أن الأوروبيين منزعجون من تحول تركيا إلى دولة قوية ولو تم ذلك بالطريقة الدستورية أكثر من انزعاجهم من محاولة قلب نظام الحكم عبر الانقلاب العسكري لذلك فهم يصرون على تقييد الدور التركي وتحجيمه وإيواء منظمات إرهابية تستهدف الحكومة والشعب التركيين على حد سواء وتقديم الدعم المالي واللوجيستي والعسكري لها في حين تحجب أي تسهيلات عن الحكومة الشرعية لمقابلة رعاياها بالطرق الرسمية وبما يتوافق مع القوانين الدولية ومواثيق حقوق الإنسان.
على الجانب الآخر تستغل الأحزاب اليمينية المتطرفة الأزمات الناشئة بين تركيا والاتحاد الأوروبي خاصة ملف العضوية واللاجئين لتحقيق مكاسب انتخابية من خلال تصدير تصريحات حادة ضد القيادة التركية وشخص الرئيس التركي رجب طيب أردوغان من خلال وصفة بـ"الإسلامي الخطير" الذي يمثل تهديدًا لأوروبا وشعوبها وأنه يبتز الحكومات الأوروبية للحصول على الأموال مقابل وقف تدفق اللاجئين، وبالتالي يجب منعه من تعزيز سلطته بأي طريقة كانت ومهما كان الثمن.
الخلاصة هي أن العلاقة بين تركيا والاتحاد الأوروبي ستواجه تحديات كبيرة خلال الفترة المقبلة ولن تأسف تركيا على خسارتها لجزء من شركائها الأوروبيين في سبيل المضي قدمًا لتحقيق مصالح شعبها ولا شك في أن هذه الأزمات المفتعلة ستنعكس إيجابًا على الحكومة التركية وتزيد من التفاف الشعب التركي حول قيادته كما حدث خلال المحاولة الانقلابية الفاشلة وأكبر صفعة قد يوجهها الشعب التركي للديمقراطية الأوروبية المشوهة ستكون عبر صناديق الاستفتاء الشعبي المرتقب وحتى ذلك الحين ستبقى الدول الأوروبية تحاول التأثير على الرأي العام التركي من خلال تصوير التعديلات الدستورية على أنها محاولة من الرئيس أردوغان لتعزيز سلطته وتحويل البلاد إلى نظام دكتاتوري سلطوي يقمع الحريات العامة ويصادر حقوق الإنسان وقد تشهد الأيام القادمة انضمام دول جديدة إلى جانب ألمانيا والنمسا وهولندا تساهم في إظهار الوجه الحقيقي القبيح للديمقراطية الأوروبية المزيفة.
هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!
مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس