محمود عثمان - خاص ترك برس
لماذا يناصب الليبراليون العرب تركيا العداء؟ ولماذا لم يدينون التفجيرات والاعتداءات الانتحارية التي قام بها تنظيم داعش بلغة واضحة؟ ولماذا لم يستنكروا المحاولة الانقلابية ضد الدولة المدنية والحكومة المنتخبة في تركيا؟ ولماذا لم يخفوا خيبة أملهم من فشلها؟ ولماذا انبرى غالبيتهم حواريو سلام وناشطو دفاع عن حقوق الموقوفين والمعتقلين على خلفية المحاولة الانقلابية رغم إطلاق هؤلاء النار على المدنيين العزل؟
في الأساس، يقوم الفكر الليبرالي على صون واحترام الحريّات الفردية والتوجهات الفكرية، وتركيز على مبدأ المساواة بغض النظر عن اللّون أو الجنس أو العرق أو الدين، ويرفع الليبراليون شعارات حقوق الإنسان، والدّولة الدستورية، وحرية الدين والمعتقد، والانتخابات البرلمانية النزيهة الحرة التي تعبّر عن طموحات الشعوب وتطلعاتها، ويدعون إلى احترام حق الإنسان في التملك الخاص وفتح الاسواق أو ما يعرف بمبدأ السوق الحر.
وعندما أطلت شمس الرّبيع العربي على الدّول العربية، فرحت غالبية الليبراليين العرب الذين كانوا يدعون إلى إحلال الدّيمقراطية في المنطقة العربية، واستبشروا بالحرية التي حُرمت منها شعوب المنطقة عصورا.
لكن بالرغم من أن الرئيس التركي رجب طيب أردوغان كان في مقدمة الداعين لفكرة الليبرالية المحافظة، ومن أوائل الملتزمين بتطبيقها واقعا عمليا طوال مسيرته السياسية، إلا أنه لم يجد طريقا إلى قلوب الليبراليين العرب!. فبدل أن يناصروه ويدعموه، ناصبوه وحزبه العدالة والتنمية العداء. لم يفوتوا فرصة، ولم يدخروا جهدًا ولا وسعا في محاربته، والهجوم عليه!.
ورغم معاداة الليبراليين ايدولوجيًا لفكرة الانقلابات العسكرية ووقوفهم ضدها، إلا أن الليبراليين العرب لم يخفوا فرحتهم من تمرد زمرة من الانقلابيين ضد أردوغان في تركيا، ولم يخفوا امتعاضهم من فشلها، بل إن منهم من لم يكتم غيظه من وقوف الشعب التركي صفًا واحدًا ضد المحاولة الانقلابية.
يمكننا فهم ازدواجية معايير الدول الغربية واختلالها وعدم صدقها، وفقدانها للجدية في توجهاتها، والتي باتت في حكم المجمع عليه عند غالبية شعوب العالم الاسلامي، التي رأت الكيل بمكيالين في التعامل مع حوادث الإرهاب، من تفجيرات باريس الى بروكسل، حيث وقف الغرب صفا واحدا ضد الإرهاب. أما عندما يتعلق الأمر بتركيا، فإنهم لا يرون ولا يسمعون، بل يكتفون بإدانات لا تسمن ولا تغني من جوع.
فإذا كانت تلك هي حال الغرب وازدواجيته، فما بال الليبراليين العرب يناصبون القيادة التركية العداء؟ ولماذا لم نجد أحدًا منهم يتساءل: ما شأن جماعة اسلامية! في ترتيب انقلاب عسكري ضد حكومتها؟!.
كثير من هؤلاء يتهم أردوغان بإقحام إخوانيته! في السياسة، لكنهم في الوقت نفسه، صم بكم عمي عن جماعة غولن (الدينية) التي تقود انقلابًا عسكريا!.
ما هي الأسباب التي تدفع الليبراليين العرب إلى معاداة تركيا؟
عندما قامت ثورة الخميني في ايران في نهاية السبعينات وبداية الثمانينات من القرن الماضي، اعتبرها النظام الرسمي العربي عدوا استراتيجيا مهددا لكيانه، ولم يكن قد جانب الصواب في ذلك، فما إن وطئت قدما الخميني أرض إيران، حتى بدأ بوضع الخطط والمشاريع لتصدير الثورة إلى دول المنطقة، والمستهدف الرئيسي هنا البلاد العربية، ودول الخليج العربي تحديدا.
فهمت هذه الدول استراتيجية ايران الخمينية، القائمة على الغزو الفكري الثقافي الذي يعقبه الغزو السياسي ثم العسكري... فقامت بدفع الرئيس صدام حسين إلى إعلان الحرب على إيران، حربا دامت ثماني سنوات، أتت على الأخضر واليابس، واستنزفت الطرفين، وكلفت المنطقة يومها ما يزيد على 520 مليار دولار.
انتهت الحرب عندما اقتنع النظام الرسمي العربي أن إيران خرجت عن كونها مصدر خطر وإشعاع فكري يؤثر على الشعوب العربية عقائديا، حيث رأى المواطن العربي بأم عينيه، واكتشف أن إيران لها مشروعها القومي الفارسي المذهبي الخاص بها، الذي لا يتلاءم مع شعوب المنطقة لا مذهبيًا ولا عرقيا.
وعندما وصل حزب العدالة والتنمية إلى الحكم بعد انتخابات عام 2002، وبدأت انجازاته ونجاحاته تتوالى، وأصبح مصدر إعجاب وبؤرة جذب للشارع العربي، توجس النظام الرسمي العربي من تركيا وقيادتها الجديدة. وربما كان محقا في ذلك، إذ أن كل زائر لتركيا بات يرى الفرق الشاسع بين تركيا القديمة وتركيا الجديدة، وأصبح يتساءل: كيف نجحت تركيا في تحقيق هذا التطور الهائل السريع، وهي لا تملك بترولًا ولا غاز طبيعيًا، وليس لديها موارد طبيعية تستخرجها من تحت الأرض ولا فوقها؟.
هذه المحاكمة العقلية والقياس الذهبي ولو كان في العقل الباطن يخيف أنظمة الحكم، خصوصا بعد مرحلة ثورات الربيع العربي، ولذلك لن تهدأ الحملات الإعلامية ضد تركيا، ممثلة بأردوغان وحزب العدالة والتنمية.
لكن من الجدير ذكره هنا أن الخطاب الإعلامي – لا السياسي – للرئيس أردوغان كثيرا ما يصب الزيت على النار، فيفاقم الأزمة ويزيد التوتر في كثير من الأحيان، وخصوصا عندما يتعلق الأمر بالحالة المصرية، مما يقوض الانفتاح على دول المنطقة الرئيسية، ويضيع فرص بناء حلف استراتيجي بات قيامه ضروريًا جدًا بين تركيا والسعودية وقطر كنواة أولية، تلحق به وتنضم إليه بقية الدول، وذلك من أجل مواجهة التهديدات الحقيقية التي باتت تهدد الأمة الاسلامية في مصيرها وكيانها ووجودها.
على الطرف المقابل أليس من الأولى والأجدى أن تسلك وسائل الإعلام العربية، والأقلام الليبرالية اللامعة الرصينة، أسلوب النقد البناء الذي لن تنزعج منه القيادة التركية حيث هي بحاجة ماسة إليه، عوضا عن حملات التشويه التي تفوح منها رائحة التشفي والانتقام، وتشيع أجواء إيجابية بناءة، بدل الشحن السلبي والدعايات المغرضة، فتكون بذلك قد مهدت الطريق، وهيأت الأجواء فكريًا ونفسيًا أمام القيادات السياسية، لتلتقي وتبني.
هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!
مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس