لينا الخطيب - صحيفة الحياة
كاد يمر عام على بدء روسيا حملتها العسكرية في سورية، وبدأت تظهر الآن فقط معالم مرحلة جديدة في النزاع السوري، تأتي فيها تركيا في طليعة هذه المرحلة. فنتيجة لتبعات إستراتيجيتها الخاصة في سورية، إضافة إلى دور الفاعلين الخارجيين، يتحول موقف تركيا في النزاع السوري ببطء إلى موقف أقرب إلى موقف الولايات المتحدة الأميركية وروسيا. وبينما سيرحب الكثيرون بهذا التغيير كزيادة في إمكانية تحقيق تسوية سياسية للنزاع، فإن من المحتمل أن يزيد من عدم الاستقرار المحلي في تركيا.
لقد كانت للولايات المتحدة وروسيا وجهات نظر متباعدة بخصوص النزاع السوري. فقد رفضت روسيا دائماً تغيير النظام في سورية، بينما تمسكت الولايات المتحدة بإصرار برحيل الرئيس بشار الأسد. إلا أن الخطاب الأميركي لم يصاحبه قط عمل ملموس لتمكين حدوث هذا التغيير. فمن دون دور أميركي نشط في العملية السياسية التي تقودها الأمم المتحدة أو مستوى كاف من الدعم للمعارضة السورية، سياسياً كان أو عسكرياً، تركت الولايات المتحدة الباب مفتوحاً بشكل فعال لتحول روسيا وجهات نظرها الخاصة بسورية إلى حقيقة ملموسة.
في الوقت نفسه، كانت إستراتيجية النظام السوري الخاصة في معالجة النزاع تعتمد على مسانديه الخارجيين، أولاً إيران، ثم روسيا، مع تقديم معركته ضد المعارضة على أنها معركة ضد التطرف. وعلى المستوى التكتيكي، قام النظام بالسماح بشكل غير مباشر بنمو جماعات مثل تنظيم «داعش»، خصوصاً بعد أن بدأ «داعش» استهداف الثوار السوريين. لكن عندما بدأ التنظيم مهاجمة المناطق الخاضعة للنظام أيضاً، رأت روسيا في هذا فرصة. فالتدخل الروسي الذي بدأ في أيلول (سبتمبر) الماضي تحت ذريعة قتال «داعش» لم يمكّن الأسد من البقاء في السلطة فقط، خصوصاً وقد قامت روسيا بقصف كل من «داعش» والجماعات المختلفة من الثوار السوريين كجزء من حملتها الجوية، لكنه أيضاً جعل روسيا صاحبة مصلحة رئيسية لا يمكن الوصول إلى تسوية للنزاع السوري من دونها.
مع صعود «داعش»، وجدت الولايات المتحدة عدواً مناسباً لتحويل الانتباه بعيداً عن السياسة السورية، وزادت من إبراز تدخلها في النزاع السوري على أنه لمكافحة الإرهاب. وهكذا، تواءم المنهجان الأميركي والروسي في شأن سورية. هذا التواؤم ينمو إلى مناقشات حول تنسيق حملات عسكرية ضد «داعش» والجماعات الأخرى المسماة «إرهابية» في سورية. في هذه الأثناء، بدأت الولايات المتحدة وروسيا مناقشة اتفاق إطاري خاص بتسوية النزاع يتضمن السماح للأسد بالبقاء في السلطة خلال الفترة الانتقالية.
مع تتابع كل تلك التطورات، وجدت تركيا نفسها تحت ضغط متزايد. فبخلاف الولايات المتحدة، سعت تركيا بشكل نشيط لإزاحة الأسد من السلطة من خلال منح الدعم للجماعات المسلحة المتعددة في سورية. كما رأت أيضاً، في البداية، أن صعود «داعش» يشكل فرصة محتملة للتخلص من الأسد بسرعة، وفي النزاع السوري ذريعة لاتخاذ إجراءات صارمة ضد «حزب العمال الكردستاني» في الجنوب على طول الحدود السورية. إلا أن سياسة غض النظر التي اتبعتها تركيا في ما يتصل بحدودها مع سورية، والتي سمحت لآلاف المقاتلين الأجانب بالعبور إلى سورية من أوروبا وغيرها للانضمام إلى «داعش» والجماعات الأخرى، وضعت تركيا تحت ضغط من أوروبا، إضافة إلى الولايات المتحدة التي بدأت تعدها عنصراً من العناصر المسببة لعدم الاستقرار. لقد جاءت المبادرة التركية في مراقبة الحدود متأخرة جداً حيث كان «داعش» عندئذ قد أرسى وجوده على التراب التركي وبدأ سلسلة من الهجمات الإرهابية في المدن التركية المختلفة.
انضمت تركيا بصورة مترددة إلى التحالف الدولي الذي تقوده الولايات المتحدة ضد «داعش»، مما أدى إلى زيادة مجال نشاط «داعش» على أرضها بدافع الانتقام. بالانضمام إلى التحالف، توقعت تركيا أن تلعب الولايات المتحدة في المقابل دوراً أكثر نشاطاً في دعم رغبة تركيا في تغيير النظام في سورية. لكن هذا لم يحدث.
أكثر من هذا، بدأت الولايات المتحدة دعم القوات الكردية المنتمية لـ «حزب العمال الكردستاني» في سورية (وحدات حماية الشعب) على رغم إدراجها «حزب العمال» كجماعة إرهابية، ووجدت في «وحدات حماية الشعب» شركاء عسكريين يمكن أن يكونوا موضع ثقة على الأرض في المعركة ضد «داعش». كذلك بدأت روسيا إخافة تركيا من خلال الحملة الجوية التي بدأت في أيلول (سبتمبر) 2015، ليس فقط بالاختراقات الدائمة للطائرات المقاتلة الروسية للمجال الجوي التركي، ولكن أيضاً بقصف الجماعات السورية الثائرة المدعومة من تركيا، إضافة إلى إمداد «حزب العمال الكردستاني» بالأسلحة ودعم الأكراد في سورية أيضاً.
شعرت تركيا بالعزلة. فهي أصبحت تحت ضغط روسي، وإلى حد كبير من دون دعم أميركي، وتشهد تحولاً تدريجياً في السياسة الأميركية في سورية إلى موقف أقرب إلى موقف روسيا. كذلك أصبحت مثقلة بتفاقم مشكلة «داعش» على أرضها، من دون أن ترى فرصة لتغيير النظام في سورية، وخشيت إمكانية قيام منطقة كردية مستقلة على حدودها مع استغلال الأكراد السوريين صلاتهم مع الولايات المتحدة وروسيا للمطالبة بالحكم الذاتي. وكانت القشة التي قصمت ظهر البعير محاولة الانقلاب الذي حدث في تركيا في تموز (يوليو) الماضي والذي قابله رد فعل فاتر في الولايات المتحدة وأوروبا.
من بين كل تلك المشاكل، فإن فرصة الحكم الذاتي الكردي خارج منطقة كردستان العراقية هي الخط الأحمر بالنسبة إلى تركيا. وحتى لا يتم عبور هذا الخط الأحمر، عرفت تركيا أن عليها القبول بحل وسط. هذا الحل الوسط يأخذ شكل سورية.
قبل أيام قليلة، أعلن رئيس الوزراء التركي أن تركيا تقبل بقاء الأسد في السلطة خلال فترة انتقالية. وبعد ذلك بأيام قليلة، أرسلت تركيا قوات إلى داخل سورية للسيطرة على بلدة جرابلس الحدودية لمنع مقاتلي «وحدات حماية الشعب» من انتزاعها من «داعش»، إذ أن سيطرتهم عليها كانت ستمكنهم من ربطها بمناطق أخرى تحت السيطرة الكردية في شمال سورية. وفي مجموعة لم يسبق لها مثيل من التحركات، طلبت الولايات المتحدة، إضافة إلى تركيا، أن تتراجع القوات الكردية إلى شرق الفرات، بينما قصف النظام السوري أيضاً الأكراد في الحسكة، بعد أن رأى في زيادة الثقة بالنفس من قبل الأكراد تهديداً لوحدة سورية.
للمرة الأولى في تاريخ النزاع السوري، تتجه الولايات المتحدة وروسيا وتركيا نحو تحقيق درجة من التواؤم في شأن سورية ولو على حساب الأكراد، إضافة إلى العديد من الثوار السوريين المدعومين من جانب الأتراك. وعلى رغم أن هذا يعني أن تركيا لن تجد منطقة كردية مستقلة ذاتياً على عتبتها، فقد كان ثمن هذا عالياً. فالاقتصاد التركي تأثر تأثراً سلبياً، ومن المحتمل أن تستمر النشاطات الإرهابية من قبل «داعش» و»حزب العمال الكردستاني»، كما سيكون على تركيا الإذعان للطلبات الروسية والأميركية الخاصة بسورية، والتي لا يمكن إلا أن تلحق الأذى بالمصداقية السياسية للرئيس أردوغان. قد تتخطى تركيا هذه المرحلة في النهاية، لكن التداعيات المحلية، الاقتصادية والأمنية والسياسية، تستحق وقفة للتفكير.
هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!
مواضيع أخرى للكاتب
مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس