جلال سلمي - خاص ترك برس
تناولت عملية المفاوضات التي جرت في مكتب الأمم المتحدة بجنيف مؤخرًا إمكانيات حل التسوية للقضية القبرصية، بمشاركة الوفدين القبرصي التركي والرومي، وممثلين عن الدول الضامنة "بريطانيا، وتركيا، واليونان" بصفة "مفاوض مباشر"، أما الأعضاء الدائمون في مجلس الأمن "روسيا، وفرنسا، والولايات المتحدة، والصين"، وممثلي الاتحاد الأوروبي فيشاركون بصفة "مراقب".
وفيما توقع أن يمثل لقاء جنيف المحطة الأخيرة في عملية المفاوضات المتواصلة منذ شباط/ فبراير 2014، إلا أن تباين مواقف الكثير من الدول إزاء العملية، حال دون إحراز نتائج ملموسة لعملية الحل، وكان إلغاء كل من رئيس الوزراء اليوناني "أليكسيس تسيبراس" ورئيس الجمهورية التركي "رجب طيب أردوغان" زيارتهما لجنيف، نتيجة اعتراض كل طرف على الشروط التي وضعها الطرف الآخر كمقابل للمشاركة في عملية المفاوضات، العامل الأبرز في ظهور حالة الإخفاق التي خيّمت على عملية المفاوضات التي وإن لم يتم الإعلان عن فشلها رسميًا، فإن عدم مشاركة الطرفين الأساسيين في القضية يعني فشلها.
وعند التنقيب عن الأسباب التي وقفت وراء إعاقة عملية الحل، نجد أن العوامل المذكورة أدناه قد تشكل الأسباب الرئيسية لفشل العملية:
ـ الاحتراز والتردد في موقف "جمهورية قبرص التركية الشمالية"، فهي ترغب بإرساء حل للأزمة، ولكن مع الإبقاء على مساحة 29.2% من الجزيرة، كبديل عن الـ32% التي تسيطر عليها الآن، ليتسنى لها تشكيل فيدرالية تركية مستقلة إداريًا. فيدرالية تجنبها الحرمان السياسي والاقتصادي، أو حتى الجرائم التي ارتكبتها بحقها السلطات والميليشيات الرومية التي نكثت العهود والمواثيق الموقعة عام 1959، وغدت تمارس الحرمان والجرائم ضدهم حتى عام 1974، حيث التدخل التركي. أيضًا ترغب في الحفاظ على استمرارية الضمانة الأمنية لتركيا، لتفادي تكرار "الجرائم" التي ارتكبتها السلطات القبرصية اليونانية وميليشياتها بحق المواطنين القبارصة الأتراك، كما أن علاقة "التبعية الكاملة" القائمة عليها العلاقات التركية القبرصية التركية، تجعلها متخوفة من حالة الغموض التي قد تكتسي بها المرحلة الانتقالية وما بعدها في حين نجحت المفاوضات، وهذا ما تراه قبرص الرومية واليونان عائق أساسي أمام عملية الحل.
ـ الرغبة الرومية اليونانية بالتفرد بالجزيرة: تصر قبرص الرومية على المطالبة برفع الوصاية أو الضمانة العسكرية عن الجزيرة، لتصبح سيطرتها السياسية والاقتصادية أوسع، وبالأخص في ظل استمرار الحلم التاريخي للقبارصة الروميين المعروف اختصارًا باسم "أنيسوس"، والمتمثل في جعل الجزيرة خاضعة للسيطرة اليونانية البحتة، ومن ثم الارتباط بالوطن الأم "اليونان" دبلوماسيًا واقتصاديًا وثقافيًا، فضلًا عن رغبتها في تبديد النفوذ التركي هناك، للاستفادة من مشاريع البحث عن أحواض الغاز الطبيعي الكثيفة، والتحول إلى مركز إقليمي لوجستي حيوي لنقل البضائع، وتمديد خطوط نقل الغاز الطبيعي لإسرائيل أو مصر اللتين لا ترغبان بوجود النفوذ التركي، وتريدان حل يلائم مصالحهما في بناء تعاون مع جمهورية قبرص المتحدة والمتخلصة من الضمانة العسكرية، لا سيما التركية، الأمر الذي يكفل لهما ولقبرص الرومية الحق في إتمام مشاريع البحث عن الطاقة، ومد أنابيب الغاز عبر قبرص، وإن كانت بتكاليف أكبر، بهدف كسر الاحتكار التركي الذي تسعى تركيا لتشييده عبر تحويل موقعها مركزًا حيويًا لتوزيع الطاقة، وبالطبع ذلك السيناريو من المستحيل أن توافق عليه تركيا التي أعلنت في يونيو 2014 "قواعد الاشتباك" المستهدفة لأي عملية تنقيب، أو اختراق للمياه الإقليمية الخاصة بقبرص التركية. يعتبر موقف القسم الرومي للجزيرة، والذي تدعمه اليونان التي ترغب في كسر الاحتكار التركي وإبعاده عن الساحة، لترجح كفة الميزان لصالحها، مخالف تماماً للمصالح التركية، فتلك الرغبات تقضي على المصالح التركية تمامًا.
ـ رغبة تركيا في الإبقاء على سيطرتها السياسية والعسكرية والاقتصادية على قبرص التركية حتى عام 2032 على الأقل، بغية اكتساب فرصة إثبات أهميتها من جديد بالنسبة للغرب وبالأخص الاتحاد الأوروبي، والحفاظ على نفوذها السياسي في حوض البحر المتوسط، لإرغام الدول الراغبة، خاصة "إسرائيل"، في نقل غازها الطبيعي نحو أوروبا، للتعاون معها.
ـ مسعى اليونان في إزاحة النفوذ التركي على الجزيرة، لدعم مصالحها الاستراتيجية، وتحقيق سيطرة أكبر على الجزيرة التي قد تمسي محطة نفوذ جيو ـ سياسي وجيو ـ اقتصادي، وبذلك ترجح كفة ميزان القوى لصالحها وضد مصالح منافسها التاريخي تركيا.
ـ محاولة روسيا عرقلة عملية الحل، للإبقاء على نفوذها في حوض البحر المتوسط الشرقي الذي تتفرد بالسيطرة عليه في ضوء غياب أي دور لحلف الناتو الذي لا يستطيع إثبات وجوده العسكري في الجزيرة "نتيجة اتفاقية الضمانة العسكرية"، كما أن تسعى جاهدةً لتحقيق فوائد اقتصادية نتيجة استمرار الشقاق القبرصي الذي يتسبب في إعاقة عملية البحث عن الغاز، وإمكانية نقله نحو الاتحاد الأوروبي، الأمر الذي يصبح في مصلحتها الاقتصادية المتمثلة في نقل الغاز الطبيعي نحو دول الاتحاد الأوروبي دون منافس قد يكون إسرائيلي أو مصري أو إيراني، حيث تسعى الدول المذكورة لمد خطوط غازها الطبيعي عبر جمهورية قبرص في حال اتحدت، لتجنب الاحتكار التركي في نقل الغاز الطبيعي عبرها.
في الختام، لا بد من الإشارة إلى أن مسألة قبرص ليست بالمسألة البسيطة التي تخص طرفا النزاع القبرصي التركي والرومي فقط، بل هي مسألة نفوذ استراتيجية تحاكي مصالح عدد هائل من الدول، الأمر الذي يجعل حلها دون إحداث توافق يُرضي جميع هذه الدول وفقاً لمبدأ المصلحة المطلقة المشتركة، من ويحات الخيال.
هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!
مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس