أسامة السيد عمر - خاص ترك برس
حسب التقسيمات التي وضعها الأوائل، فقد قُسمت الشام خمسة أقسام فكان الثالث منها الغوطة ومدينتها العظمى دمشق، ومن سواحلها طرابلس الشام. وفي تاريخ دمشق، ذكر ابن عساكر أن حواء سكنت بيت لهيا، وفي قوله تعالى (وَآوَيْنَاهُمَا إِلَى رَبْوَةٍ ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ) عن عيسى بن مريم وأمه عليهما السلام، ذكر مجاهد أن الربوة هي غَوْطَةِ دِمَشْقَ وَمَا حَوْلَهَا.
وبين بساتينها خطى عمر بن الخطاب، ولما أشرف عليها وتأمل حالها وقد رحل عنها أهلها بعد الفتح الإسلامي تلا قوله تعالى (كم تركوا من جنات وعيون وزروع ومقام كريم ونعمة كانوا فيها فاكهين كذلك وأورثناها قوما آخرين).
وفي المليحة مقام سعد بن عبادة، وعبد الله بن سلام في سقبا، والشيخ حرملة في جوبر، ومقام حزقيل في داريا، ودحية الكلبي في المزة، وفي مرج الصفر كان به وقعة للمسلمين مع الروم، وفي مرج راهطٍ شرقي كانت وقعة بين قيس وتغلب.
ومن داريا كان سُلَيمان الدَّاراني وهو من ثقات التابعين وكان ينعت بقاضي الخلفاء، واستمر في قضاء دمشق ثلاثين عاما، ومن كفر بطنا خرج الحافظ شمس الدين الذهبي وولده المحدث أبو هريرة وغيرهم.
وكان في قرى الغوطة علماء وفقهاء ويختلف إليها علماء دمشق يدرسون فيها فمن جملة تآليف الحافظ ابن عساكر كتب في روايات أهل داريا وكفرسوسة وصنعاء دمشق والربوة والنيرب وأهل الحميرين وقبيبة وفذايا وبيت أرانس وبيت قوفا والبلاط وبيت سوا ودومة ومسرابا وحرستا وكفربطنا ودقانية وحجيرة وعين ثرماء وجديا وطرميس وبيت لهيا وبرزة.
وقد ذكر الظاهري من أهل المائة التاسعة للهجرة أنه كان على عهده في الغوطة نيف وثلاثمائة قرية وبها مدن صغار وبلدان تشابه المدن، ولقد ساح ياقوت في بلاد الله شرقاً وغرباً، فما رأى مثل الغوطة وأقرّ أبو بكر الخوارزمي على أن متنزَّهات الدنيا أربع وذكر منها الغوطة وقال المروزي هي من جنان الدنيا رأيتها فصادفتها كما وصفت، وقال الأكفاني إن عجز الغني أن يجمع منك كنزا لم يعجز المسكين أن يشبع منك خبزا. وقد نزل يزيد بن معاوية دير مران ومات فيه الوليد واجتاز به الرشيد والمأمون.
ومياه الغوطة كلها تخرج من نهر الزبداني وعين الفيجة، وهي عين تخرج من أعلى جبل وتنصب إلى أسفل بصوت هائل ودوي عظيم، فإذا قرب إلى المدينة تفرق أنهاراً وهي بردى ويزيد وتورة وقناة المزة وقنوات الصوف وقنوات بانياس وعقربا.
وفي مذكراته، أبدع الشيخ علي الطنطاوي في وصفها فذكر القرى المتوارية من الحياء وسط الأشجار، تتستّر بها حتى لا تُرى كالمخدَّرة الحيِيّة التي تخشى أن تلمحها عيون الرجال، فلا يبين منها إلاّ ذرى مآذنها. ولو اجتمع على مائدة واحدة ما يخرج منها من الثمار لاجتمع أكثر من ثلاثمئة طبق، ما في طبق منها مثلُ ما في غيره من الطباق. وإذا رأيت نساءها يَلُحْنَ لك من بعيد وهنّ ساربات خلال الأشجار أو منثورات وسط الحقول رأيت ثياباً زاهية تضحك فيها الألوان، فتحسبهنّ زهراتٍ من زهرها، على شمول ثيابهن وسترها.
وفي معرض للعنب في داريا مطلع القرن الماضي، ذكر الطنطاوي أنه قد عُرض فيها مئة وسبعة أنواع من العنب، ولكن مجمع الكروم ومعظمها كان في دوما.
ونقلا عن الطنطاوي رحمه الله فإن الثورة لم تخرج من جبل الدروز كما شاع بين الناس، بل خرجت الثورة من غوطة دمشق. سلوا الغوطة عن معارك الزور وعمّا صنع حسن الخراط؟ أما ضرب الفرنسيون أقدم مدن الأرض العامرة بالقنابل مرتين في عشرين سنة؟ أما أضرموا النار في جرمانة والمليحة وزبدين وداريا وتلّ مسكين ودير سلمان وقُرى أخرى لا يُحصيها من كثرتها العدّ؟
وفي بسيمة كان الأمير الشابّ عِزّ الدين الجزائري سبط الأمير عبد القادر، وكان في عدد قليل من المجاهدين، فكانت تخرج له الحملة الضخمة من الجنود معها السلاح والعتاد، فيربط لهم عند فم الوادي حتى يهزمها، فتعدو فرنسا على القرى الآمنة تنتقم منها، فتسوق البُرآء من أهلها إلى الموت وتُذيقهم العذاب قبله ألواناً، وتهدم البيوت وتنهب الأموال. إن تحت كل شجرة من أشجار الغوطة جثة شهيد مات دفاعاً عن هذه الأرض الطاهرة التي ارتوت بالدم.
المصادر والمراجع * تاريخ دمشق، أبو القاسم علي بن الحسن بن هبة الله المعروف بابن عساكر * ربيع الأبرار ونصوص الأخيار، جار الله الزمخشري * ضرب الحوطة على جميع الغوطة، الحافظ محمد بن طولون الدمشقي الحنفي * معجم البلدان، شهاب الدين أبو عبد الله ياقوت بن عبد الله الرومي الحموي * من حديث النفس، علي بن مصطفى الطنطاوي * البواكير، علي بن مصطفى الطنطاوي * ذكريات، علي بن مصطفى الطنطاوي * خطط الشام، محمد بن عبد الرزاق بن محمَّد كُرْد عَلي * رحلة الشتاء والصيف، محمد بن عبد الله بن محمد
هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!
مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس