ترك برس
أبيات من الشِعر تلاها الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، خلال فعاليات النصر التي أقيمت في العاصمة الأذربيجانية، باكو، بمناسبة الانتصار على أرمينيا في إقليم "قره باغ"، كانت كافية لخلق أجواء توتر بين أنقرة وطهران، وصلت إلى حد استدعاء البلدين سفراء الطرف الآخر.
المقطوعة الشعرية التي تلاها أردوغان، ورد فيها اسم "نهر آراس"، الأمر الذي رأى فيه مسؤولون إيرانيون أنها تضمنت دلالات على أن المناطق الشمالية الغربية الإيرانية جزء من أذربيجان.
وبالأمس، أعلنت كل تركيا وإيران تجاوز حالة "سوء الفهم" التي سادت بين البلدين على خلفية المقطوعة الشعرية التي تقول "لقد فرَّقوا آراس.. وأغرقوه بالرمال.. أما أنا فلم أكن أريد.. لقد فرقونا ظلمًا".
وينبع نهر آراس من تركيا ويمر عبر أرمينيا وأذربيجان وإيران، وتتحدث القصيدة -وهي من التراث الأذري- عن تقسيم أرض أذربيجان بين روسيا وإيران في القرن 19، وأبدت الأخيرة قلقها من أن يعزز ذلك الميول الانفصالية بين أبناء الأقلية الأذرية في إيران.
وأعادت القصيدة الضوء لتاريخ طويل من القصائد والشعر والغناء على جانبي نهر آراس، فحيثما وجد الأذريون، لا بد أن يحملوا معهم "عاشيق" وهي موسيقى وغناء وآلة وترية تشبه العود اشتق اسمها من لفظة "عشق" العربية، بحسب تقرير لـ "الجزيرة نت."
وتصنف منظمة اليونسكو فن "عاشيق" الأذري ضمن قائمة التراث الشفهي وغير المادي للإنسانية، ورمزا للهوية الثقافية الأذرية منذ سبتمبر/أيلول 2009.
ورغم أن "العاشيق" شائع بين الشعوب والثقافات التركية المختلفة بالقوقاز والأناضول ووسط آسيا، لكن ارتباطه بقبائل الأوغوز التركية -الذين سافروا في القرن التاسع من آسيا الوسطى واستقروا بالمناطق المعروفة الآن باسم تركيا وأذربيجان وشمال غرب إيران- أكسب هذا الفن حنيناً خاصاً لعصر استثنائي دخلت فيه الشعوب التركية الإسلام واستقروا في موطنهم الحالي وطوروا فنونهم لا سيما مزيج الغناء والموسيقى الشعبية والأدب الصوفي الذي يؤديه "العاشيقون".
وكان عهد الشاه الإيراني محمد رضا بهلوي (حكم من 1941 إلى 1979) ووالده، فترة حالكة للأدب والفن الأذري، إذ حظر التعليم والنشر باللغة الأذرية، وكان على الكتّاب الأذريين نشر أعمالهم بالفارسية، ومع ذلك، تم التسامح مع موسيقى "عاشيق" وكثيرا ما كان العاشيقون يؤدونها بالمقاهي والأماكن العامة في جميع المدن الرئيسية شمال غرب إيران.
وكانت تبريز وأورمية الإيرانيتان مركزاً لموسيقى "عاشيق"، وبعد ثورة الخميني 1979 تم حظرها مجدداً. ولكن بعد 10 سنوات، كان "العاشيق" رسول قرباني، الذي اضطر لكسب لقمة العيش كبائع متجول، يطمح إلى العودة إلى أيام الشهرة والمجد، فبدأ في تأليف الأغاني بمواضيع دينية وثورية تقبلتها السلطات بعد أن أدركت الإمكانات الدعائية الهائلة لهذه الأغاني، وسمحت ببثها في الإذاعة الوطنية وأرسلت قرباني للغناء في بعض المدن الأوروبية، مما سهّل ذلك ظهور موسيقى العاشيق كرمز للهوية الثقافية الأذرية.
وتتناول كثير من القصائد الغنائية قصة انفصال الشعب الأذري على جانبي نهر آراس منذ عام 1813 حيث جرى توقيع معاهدة "غلستان" من قبل إمبراطوريتي رومانوف الروسية والقاجار الفارسية بعد حرب بينهما، ومنذ ذلك الحين ظل الحنين الأذري للوحدة القومية يثير العواطف والتوتر السياسي على حد سواء.
ومع ذلك، من المهم ملاحظة أن اسم أذربيجان لم يستخدم للتحدث عن المناطق الناطقة بالتركية شمال آراس حتى نهاية القرن 19، فقد كانت لفظة "أران" أكثر شيوعًا، وهو اسم من أصل فارسي يشير إلى الأراضي الواقعة بين نهري آراس وكورا والتي تغطي بلادا كانت تعرف سابقاً باسم "ألبانيا القوقازية" في حين كان سكانها الناطقون بالتركية يطلق عليهم الأتراك أو التتار.
وحتى فجر القرن العشرين، كانت كلمة أذربيجان تشير إلى المناطق الواقعة حول مدينة تبريز، شمال غرب إيران.
ويبدو من الصعب عندئذ التحدث عن هوية أذرية تاريخية تجمع بين سكان تبريز وأردبيل (الأذريين الإيرانيين) وبين سكان باكو (العاصمة الأذربيجانية) فرغم أن الشعبين يشتركان في مراجع ثقافية ولغة مشتركة، فإن هناك العديد من الخلافات أبرزها الممارسات الدينية المتباينة التي نتجت عن سياسات الستار الحديدي السوفياتي شمال آراس، في وقت حافظ أذريو إيران على تدينهم الاثنى عشري مميزاً عن أذربيجان الاشتراكية السوفياتية. وعلاوة على ذلك، تطورت الأذرية، أو بالأحرى اللهجات الأذرية، في مجالاتها المختلفة خلال القرن الماضي على جانبي الحدود، ولم يكن فهم الأذريين على جانبي النهر لبعضهم بعضاً سلسًا بشكل دائم.
هوية وطنية نامية بين 1880-1920
ولم تتطور المشاعر القومية الأذرية كثيرًا قبل نهاية القرن 19. ففي فترات سابقة، كانت أراضي أذربيجان عبارة عن تكتل من الخانات -منها قره باغ (1747-1805) تخضع إلى حد ما للسلطة المركزية لإمبراطورية "القاجار" وهم سلالة شاهات فارسية من أصول تركمانية حكموا بلاد فارس منذ 1779 وحتى الوصاية البريطانية بالقرن العشرين.
وبعد الغزو الروسي بداية القرن 19، ارتبطت المنطقة الواقعة شمال نهر آراس بإمبراطورية رومانوف الروسية، وفي الوقت الذي بدأت فيه الأفكار القومية بالظهور في أوروبا كان من الواضح أن فكرة "الأمة الأذرية" لم تكن موجودة بعد، ولم يكن هناك مساحة موحدة تتحدث التركية جنوب القوقاز، خاصة وأن الجزء الشمالي من آراس كان مختلفًا اسميًا عن أذربيجان التي كانت تقع جنوبًا وبقيت إيرانية بعد معاهدة تركمانشاي عام 1828، بحسب دراسة فيلو الذي درس الفلسفة والتاريخ بالمدرسة الفرنسية في باكو.
هوية سائلة ومتحولة
في قصائد شعرية من التراث الأذري، يحاول مسلم قوقازي تحديد هويته الذاتية، تركية ولكن ليس تماماً. فهناك محاولة للتمييز بين الهوية الأذرية القوقازية والتركية العثمانية التي كان ينظر إليها باعتبارها أناضولية وشرق أوسطية، وتمتلئ القصائد بالحنين للوحدة بين شطري آراس، والشعور بالحرمان بسبب الانفصال الذي فرضته الإمبراطورية الروسية.
وتطورت حركات ثورية أذرية في تلك الحقبة، قبل زمن الحرب العالمية الأولى، تدعو للاستقلال عن المجال الفارسي بالجنوب والروسي بالشمال، وتوحيد الأذريين على جانبي النهر، لا سيما خلال حراك الثورة الدستورية الفارسية في تبريز بقيادة ستار خان (1907-1909) وبالطبع كانت تواجه قمعاً شديداً.
وكان الحدث الرئيسي في تكوين الهوية الأذرية هو تأسيس جمهورية أذربيجان الديمقراطية عام 1918 (ADR) على يد محمد أمين رسول زاده (1884-1955) الذي كان قد انضم عام 1913 إلى حزب “المساواة الديمقراطي الإسلامي” السري (Müsavat) بعد أن عاد من منفاه في إسطنبول، وتبنى رؤية تدعو للوحدة الإسلامية والتركية، وتأثر مؤسسه بأفكار جمال الدين الأفغاني (1838-1897) حول القومية الإسلامية.
ورغم أن رسول زاده يعد أهم شخصية سياسية أذرية بالقرن العشرين فإنه في شبابه المبكر لم يعلق أهمية كبيرة على الهوية الأذرية بل دعا لوحدة إسلامية وقومية أكبر (قصد بها غالباً العثمانيين) لكن تغير الخط السياسي للحزب الذي أصبح أكثر قومية وارتباطاً بأذربيجان والقوقاز، وفي أعقاب ثورة فبراير/شباط الروسية 1917، تمكن أخيرًا من الإعلان عن نفسه والتأسيس لاستقلال أذربيجان القوقازية، مما أثار مخاوف إيرانية كبيرة من احتمال انفصال شمالها الغربي ذي الغالبية الأذرية.
لكن جمهورية أذربيجان الديمقراطية الوليدة لم تدم طويلاً، فقد اجتاحت القوات البلشفية البلاد في أبريل/نيسان 1920، وعاد الحزب لنشاطه السري مجدداً ليقوم بمحاولات تمرد قمعها السوفيات بشدة، ويفر رسول زاده مجدداً لإسطنبول.
وبالتزامن مع ذلك، وعلى الضفة الجنوبية للنهر، كان نضال الشيخ محمد خياباني (اغتيل بإيران 1920) والحزب الديمقراطي في تبريز، إذ أسس منطقة حكم ذاتي أطلق عليها اسم أزديستان مؤكداً في الوقت ذاته رفض الانفصال عن الوطن الإيراني الأم الذي دعا لتحريره من الاستبداد والهيمنة الأجنبية.
ثم جاء الاتحاد السوفياتي
بعد تأسيس الجمهوريات السوفياتية بالقوقاز وآسيا الوسطى، كانت السلطات السوفياتية المركزية حذرة من أي تعبير عن الهوية القومية التركية أو القومية الإسلامية، ونظرت إليها باعتبارها "قومية برجوازية" مقنعة، ومع ذلك في محاولة للتكيف وقطع الطريق أمام أي مشروع إسلامي أو تركي بالقوقاز حرصت القيادة السوفياتية على تمجيد الكبرياء الثوري للمسلمين الأذر تحت راية الحزب الشيوعي للاتحاد، وأصبح البناء الوطني الأذري أكثر جوهرية بعد الاحتلال السوفياتي لشمال إيران عام 1941.
وحرص قادة الاتحاد السوفياتي آنذاك على تشجيع الهوية الوطنية الأذرية كمحاولة لتحفيز الأذريين على المشاركة بالحرب العالمية الثانية ضد النازيين وأيضاً لتمييزهم وفصلهم عن العالمين التركي الأناضولي والشيعي الإيراني على حد سواء.
وهكذا كانت الهوية الأذرية الناشئة على وفاق مع السياسات السوفياتية، مما أتاح المجال لأدوار مثل سعي ميرزا إبراهيموف (1911-1993) -الرئيس المستقبلي لجمعية أذربيجان الاشتراكية السوفياتية وحامل لواء قضية جنوب أذربيجان طوال الحرب الباردة- إلى كتابة مقالات قومية بالأذرية في مواضيع السياسة والتاريخ والأدب كونت شعوراً وطنياً مشتركاً للأذريين، وشكلت لاحقاً هوية وطنية جرى الاستناد إليها لتأسيس دولة مستقلة بعد انهيار الاتحاد السوفياتي.
هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!