سعيد الحاج - عربي 21
بالتوازي مع دول أخرى في القارتين الأوروبية والأمريكية، ولأسباب داخلية وخارجية عديدة، نما التيار القومي المتطرف بشكل لافت في تركيا خلال السنوات القليلة الأخيرة. وعلى هامش هذا التيار المتشدد، طفت على السطح ظاهرة العنصرية بشكل ملحوظ مؤخراً.
وكما في الدول الأخرى، فإن ظاهرة العنصرية في تركيا تمثل أقلية عددية لكن ذات صوت مرتفع وضجيج مسموع، لا سيما في وسائل التواصل الاجتماعي، بما يشمل خطاب التمييز والكراهية وأحياناً التحريض، وفي حالات نادرة جداً الاستهداف المباشر.
الهدف الرئيس لهذه الظاهرة كان السوريين المقيمين في تركيا تحت بند الحماية المؤقتة، لكنه مع الوقت تطور وتبدل ليشمل العرب جميعاً (بما فيهم السياح أحياناً) والأفغان وغيرهم. ذلك أن طبيعة الخطاب العنصري أنه يبحث دائماً عن "آخر"، وحين ينتهي منه أو يظن ذلك أو حتى قبل ذلك، يبحث عن "آخر" جديد ليوجّه ضده خطابه وتحريضه.
ينقسم متبنّو هذا الخطاب إلى قسمين، الأول مسيّس وفي أغلبه متبلور في حزب "الظفر" اليميني المتشدد الذي أسسه أوميت أوزداغ، وبعضه متناثر بشكل قليل في أحزاب أخرى. والثاني، وهو العدد الأكبر، عبارة عن حسابات وسائل تواصل مجهولة في معظمها، لكنها تعمل بشكل ديناميكي ومستمر في هذا الاتجاه.
وقد شكلت هذه الظاهرة ضغطاً واضحاً على بعض السياسيين والبلديات ومنظمات المجتمع المدني وبعض الشركات التجارية مؤخراً، بحيث أنها إما تماهت مع هذه الظاهرة واتخذت قرارات تتماشى معها وترضيها في الظاهر، وإما سكتت وقدمت رضا ضمنياً بمطالبها.
يربط الكثيرون بين اشتداد الظاهرة مؤخراً وبين اقتراب موعد الانتخابات الرئاسية والبرلمانية التركية التي توصف بالمصيرية والحاسمة، وهو ربط محقّ في منطلقه. ثم إن البعض يتوقع أن تنحسر الظاهرة وقد تختفي تماماً بعد إجراء الانتخابات وظهور نتائجها، وهو أمر فيه نظر ويستحق النقاش.
ذلك أن انحسار الظاهرة مرتبط بشكل مباشر بتراجع أسبابها أو انتهائها، وهو أمر غير مرجح للأسف. فأسباب الظاهرة كثيرة ومتنوعة في مقدمتها ثلاثة:
الأول، قدوم عدد كبير من السوريين إلى تركيا في وقت قصير نسبياً، مع حاجز اللغة واختلاف الثقافات والعادات والتقاليد، بما ساهم في حصول عدد من الاحتكاكات السلبية بين الجانبين نتج عنها بعض التصورات الخاطئة.
الثاني، الأزمة الاقتصادية في تركيا الناتجة عن أسباب داخلية وتطورات عالمية كجائحة كورونا والحرب الروسية- الأوكرانية، والتي دفعت البعض للتركيز على وضع السوريين بادعاء أنهم ينتزعون فرص العمل من الأتراك أو أن الحكومة تصرف عليهم ما ينبغي صرفه على مواطنيها.. إلى آخره من المعلومات المغلوطة.
الثالث، ارتفاع حدة الاستقطاب في البلاد بشكل غير مسبوق، وتخطيه المستوى السياسي نحو الاجتماعي وأحياناً الثقافي والمناطقي وغير ذلك.
ساهمت هذه الأسباب في نمو الظاهرة، ثم عمّقها ووسّعها التناول الإعلامي من جهة، وتبني شخصيات وأحزاب سياسية لهذا الخطاب من جهة أخرى، بما جعل الأجنبي وخاصة السوري (والأفغاني بدرجة أقل) وكأنه تهديد للبلاد وأمنها القومي ونسيجها المجتمعي.
وللأسف الشديد، فإن طبيعة ظاهرة العنصرية في العالم أجمع أنها تنشأ على هامش الأزمات وتتغذى على المبالغات والخطاب الشعبوي وتستمر وتتمدد، إذ يصعب حصرها وحصارها، ثم ما تلبث أن تؤثر في سياسات الدول. إذ أن خطاب المزايدات الذي تنتهجه يضغط على صانع القرار الذي يرى أنه يخسر شيئاً من شعبيته وينصرف عنه طيف من أنصاره، ويتعرض لانتقادات من آخرين بسبب هذا التيار ومطالبه، وهذا ما حصل في عدة دول أوروبية خلال السنوات الماضية.
وبالعودة للعلاقة بين الظاهرة والانتخابات، لا شك أن الأخيرة عامل مهم في رفد الظاهرة بشكل غير مباشر، إذ أنها أحد أهم أسباب الاستقطاب في البلاد ويشكّل السوريون/ اللاجئون أحد أهم عناوينها. لكن ذلك لا يعني أنها ستنتهي بعد الانتخابات بالضرورة.
فمن جهة، لا يبدو أن مشاكل الاقتصاد التركي ستحل بعد الانتخابات بغض النظر عن الفائز فيها، إذ أن التطورات الدولية ما زالت قائمة ومستمرة وكذلك المشاكل البنيوية فيه، ولا نبالغ إن قلنا إن الاقتصاد هو السبب الأهم خلف الظاهرة.
ومن جهة ثانية، فإن حالة الاستقطاب لن تنتهي تماماً بعد الانتخابات. لا شك أنها قد تتراجع إلى حد ما بعد ظهور النتائج، لكن انتفاءها بالكامل غير متوقع، إذ أن عامل الاستقطاب الأساس سيبقى قائماً، وهو التنافس بين من يريدون استمرار النظام الرئاسي ومن يرغبون بالعودة للنظام البرلماني.
ومن جهة ثالثة، فإن وجود السوريين والأجانب وما يتعلق بهم سيبقى قائماً، والتيارات السياسية التي تضعهم في مرمى سهامها السياسية والخطابية ستكون حاضرة، وربما يتعاظم حضورها في المشهد السياسي.
لذلك، فإن ظاهرة العنصرية -للأسف- مرشحة للاستمرار بعد الانتخابات صيف العام المقبل، حتى لو تراجعت قليلاً. ولذلك فالحل الأنسب ليس انتظار الانتخابات، وإنما مواجهة الظاهرة بما يلزم، وهي مسؤولية جماعية تتوزع على الحكومة التركية والأحزاب السياسية والهيئات السياسية والمجتمعية السورية والإعلام والأفراد كل في موقعه.
وينبغي على استراتيجية المواجهة أن تعمل على ثلاثة مسارات رئيسة: تفنيد المعلومات الخاطئة والإشاعات، وتقديم خطاب هادئ مقنع، وتجريم ومحاسبة خطاب الكراهية والعنصرية والتحريض، وتأمين انسجام السوريين (وغيرهم) مع المجتمع التركي قدر الإمكان لتخفيف الاحتكاكات السلبية. وهي استراتيجية تحتاج لتفصيل أبعد من مجال هذا المقال، وكنا فصّلنا فيها في مقالات سابقة.
هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!
مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس