د. ياسر سعد الدين - خاص ترك برس
منذ وصوله للحكم في نوفمبر/تشرين الثاني 2002، حرص حزب العدالة والتنمية بقيادة رجب طيب أردوغان على تمتين صلات تركيا وروابطها بالعالمين العربي والإسلامي خصوصا بعد أن أظهرت أوربا تمنعا عنصريا لقبول تركيا في اتحادها والذي فتح أبوابه مشرعة لدول اوربا الشرقية، وكانت التصريحات الأوربية والفرنسية بوجه خصوصا وحتى من الفاتيكان تتحدث عن أن أهم موانع دمج تركيا أوربيا كونها دولة مسلمة.
التوجه بتركيا شرقا نحو جذورها الإسلامية وصلاتها العربية التاريخية من حزب العدالة والتنمية كان يواجه بممانعة التيار العلماني، والمتراجع شعبيا لصالح العدالة والتنمية والذي نجح في تشكيل حكومة أغلبية في نهايات 2002، غير أن التوجه العلماني كان مسنودا وبقوة من الجيش التركي والذي كان يقدم نفسه مدافعا عن العلمانية وحاميا لها، مراقبا تصرفات وسكنات وحركات قادة حزب العدالة والتنمية ومحصيا عليهم أنفاسهم. كان فشل انقلاب 15 تموز/يوليو 2016 الفرصة الذهبية والتي اغتنمها أردوغان لرفع قبضة العسكر عن السياسة والسياسيين الأتراك ولجعل الجيش تابعا للقيادة السياسة بعد أن كان يقودها ويوجهها ويهيمن على قراراتها، وليحول نظام الحكم في تركيا من النظام البرلماني إلى الرئاسي مما عزز قبضة أردوغان وقدرته على اتخاذ القرارات الحاسمة.
واجه حكم أردوغان تحديات كبيرة، فبعد سياساته "صفر مشاكل" مع دول الجوار العربي، ومحاولاته التقرب من جميع الأنظمة بما فيها نظام بشار الأسد بل ومحاولاته القيام بوساطة بين النظام السوري والإخوان المسلمين، جاء الربيع العربي ليغير المشهد السياسي في المنطقة تماما. ومع انحياز تركيا أردوغان للخيار الشعبي ودعمها لرياح التغير في المنطقة، تكالبت عليها قوى الثورة المضادة والدول العميقة في المنطقة، وتعرض اقتصادها جراء ذلك إضافة لعوامل أخرى منها زلزال شباط/فبراير 2023 إلى هزات كبيرة آثرت على حياة المواطن التركي ورفاهيته بشكل كبير وجذري.
كانت انتخابات ربيع 2023 الرئاسية والبرلمانية مفصلا حرجا وحاسما ومهما في تاريخ تركيا الحديث، واستطاع أردوغان وبشق الأنفس من الفوز في السباق الرئاسي في دورته الثانية، وعزز فوزه تفوق تحالفه في الانتخابات البرلمانية. توقع كثيرون بأن تكون الفترة الرئاسية الأخيرة لأردوغان بمثابة الفترة الذهبية لقطف ثمار حصاد عقود من العمل السياسي البارز، خصوصا وأن الرجل تحرر من الحسابات الانتخابية وأنه يلقى دعم البرلمان، غير أن ما يمكن توصيفه بخاتمة المسار السياسي للزعيم التركي كانت مخيبا لأمال الكثيرين من محبي ومعجبي أردوغان في الشارعين العربي والإسلامي وبشكل كبير.
بدأت الفترة الرئاسية لأردوغان وبعد انتصاره وحزبه، بموجات من العنصرية وبتعامل غير ودي مع قضايا اللاجئين وخصوصا السوريين منهم مما أصاب الكثيرون بالإحباط وخيبة أمل، ثم جاء التعامل مع موضوع الفائدة ليشهد انقلابا حادا على مواقف أردوغان ما بين محاولة التخلص من الفائدة إلى الوصول بها إلى الأعلى عالميا. ثم جاء الموقف التركي من محرقة وملحمة غزة والتعاطي مع الإجرام الصهيوني خصوصا في الفترة الأخيرة، لتزيل عن شخصية أردوغان الكثير من الهالة والزعامة الشعبية العربية والإسلامية والتي كان يتمتع بها.
تابع الشارع العربي والإسلامي موقف أردوغان والذي كان رئيس وزراء حينها في منتدى دافوس في كانون الثاني/يناير 2009، بكثير من الإعجاب والمحبة العارمة بعد انسحابه من المنتدى الاقتصادي العالمي عقب سجال ساخن مع الرئيس الإسرائيلي شمعون بيريز وقتها. صورة كانت جديدة وقتها على المواطن العربي والذي يرقب ويراقب بكل بؤس وألم، الاستكبار الصهيوني والتعامل العربي والذي يغلب عليه الدونية والصغار والتهافت على السلام مع المحتل وتكرار مبادرات السلام العربية والاتفاقات العربية الإسرائيلية والتي كان حصادها الخسران والمهانة ولعقود خلت. التعطش العربي الشعبي لمواقف فيها شيء من رفض الواقع المؤلم وتحدي الاستعلاء الصهيوني الأمريكي والذي قام به أردوغان غير مرة والتي كان أبرزها موقفه في دافوس وبعد ذلك اعتذار دولة الاحتلال عن موقفها من سفينة مافي مرمرة والهجوم عليها أثناء محاولتها ومَن فيها من نشطاء الوصول لقطاع غزة لفك الحصار المفروض على سكانه، مما أدى لمقتل 10 مواطنين أتراك، في مايو/أيار 2010. مواقف أردوغان من ثورات الربيع العربي ومواقفه الداعمة لغزة وفلسطين، جعلت منه الزعيم الأكثر شعبية في العالمين العربي والإسلامي.
أصبحت تركيا في حكم حزب العدالة والتنمية وقيادة أردوغان، قبلة العرب والمسلمين سياحة واستثمارا واستيطانا، وملجأ المضطهدين من ضحايا الثورات المضادة والحروب المشتعلة في عالمنا العربي والإسلامي. وغدت الانتخابات التركية سواء كانت على المستوى البلدي أو البرلماني أو الرئاسي الحدث الأهم والأكثر متابعة في الشارع العربي والإسلامي. وأصبحت عبارات أردوغان سواء فيما يتعلق بمواقفه من مرسي أو سوريا أو فلسطين تتردد وتردد في جنبات وسائل التواصل الاجتماعي وفي غيرها والتي أعادت للسياسة إقليميا ودوليا ما افتقدته وافتقرت إليه ردحا من الزمن من القيم والأخلاق، فسمعنا عن المهاجرين والأنصار وعن البطولات والتضحيات وعن الشهيد المظلوم مرسي وقصة أسماء البلتاجي وأردوغان يرويها بتأثر كبير وعاطفة عميقة.
أحداث غزة والمجازر الصهيونية المتواصلة والجرائم المرتكبة ضد شعبها المحاصر ومواقف تركيا منها أعادت صياغة مكانة تركيا وأردوغان في الضمير الشعبي العربي والإسلامي وطريقة النظر إليهما. فلقد انتهجت تركيا أردوغان، منذ بداية العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة، سياسة مزدوجة حيال الاحتلال، فهي حافظت على خطوط العلاقات الدبلوماسية والاقتصادية مفتوحة ووثيقة مع دولة الاحتلال، فيما عملت، بعد نحو أسبوعين من العدوان، للانتقال إلى مواقف تصعيدية في الخطاب الرسمي، بلغت ذروتها بإعلان أردوغان بأن نتنياهو، "لم يَعُد مخاطباً بالنسبة إليه"، واصفاً إيّاه بأنه "جزّار غزة"، كما كان آرييل شارون "جزّار بيروت"، ومعلناً أنه سيعمل على التشهير بإسرائيل كمجرمة حرب، وعلى الرغم من تصاعد الإجرام الصهيوني وتزايد المعاناة الغزية، فإن وحتى التصعيد اللفظي التركي بدأ بالخفوت والخبوت.
عشيّة وصول وزير الخارجية الأميركي بلينكن إلى أنقرة مطلع يناير الماضي، قال فيدان وزير خارجية تركيا، في لقاء موسّع مع صحافيين أتراك، إن بلاده "فعلت ما في وسعها" من أجل وقف إطلاق النار في قطاع غزة، وإنه كان عليها أن "تتّخذ مواقف حادّة من الحرب، لأن الرئيس فيها منتخَب من الشعب، وعليه أن يراعي مشاعره". وعن اغتيال صالح العاروري، اعتبر فيدان أن "الإسرائيليين يكبحون أنفسهم من أجل ألّا يَدخلوا في حرب مع لبنان. هذه الحرب هي طريق مسدود. وإذا حصلت، فمن الطبيعي ألّا تنتهي. بينما إذا كانت إسرائيل تريد السلام والحلّ، فعليها بحلّ الدولتين"، اللافت أن فيدان لم يأتِ على ذكْر صالح العاروري بالاسم، فيما الصحف التركية الموالية لـحزب العدالة والتنمية، تجاهلت ليس فقط في عناوينها الرئيسة، بل حتى في صفحاتها الأولى، خبر اغتيال قيادي حماس البارز، إذ بالكاد ظهر كخبر ثانوي في صحيفتَين مواليتَين، في مفارقة كون العاروري ظلّ مقيماً في تركيا، ووضعت إسرائيل اسمه ضمن الأسماء التي أرادت من أنقرة إبعادها كأحد شروط التطبيع بين الطرفين قبل سنوات، فكان أن تنقّل بين عدة دول، وصولاً إلى استقراره في لبنان، والذي تم اغتياله على أراضيها.
كتاب أتراك اتهموا حكومة أردوغان بالازدواجية في التعامل مع إسرائيل، إذ أظهرت الإحصائيات نهاية 2023 تصاعُد حجم التجارة بين تركيا وإسرائيل، وصولاً إلى الشهر الأخير منه، وذلك على رغم خطابات العدالة والتنمية المعادية للدولة العبرية في هذه الفترة، وبرزت في رأس قائمة الصادرات التركية التي ارتفع حجمها، منتجات الحديد والصلب والمواد الغذائية، أرقام التجارة الرسمية المعلنة تشير إلى ارتفاع الصادرات التركية إلى إسرائيل من 319 مليون دولار في تشرين الثاني، إلى 430 مليوناً، بزيادة 35%، وخلال شهر واحد فقط، وهو رقم أعلى حتى من حجم الصادرات إلى إسرائيل في تموز الماضي، أي قبل عملية طوفان الأقصى، عندما بلغ 408.3 ملايين دولار.
مواقف أردوغان وحكومته شكلا ذخيرة حية لقصف سياسي متواصل من معارضيه الإسلاميين ومن إعلامهم خصوصا حزبي المستقبل والسعادة. وكانت أكثر التصريحات حدة وشدة تلك التي أطلقها رئيس الوزراء التركي الأسبق أحمد داوود أوغلو، وكان من أبرزها انتقادا لاذعا وجهه لزعماء الدول الإسلامية المشاركة في مؤتمر المناخ "كوب 28"، بعد ظهورهم في صورة تذكارية مع رئيس إسرائيل هرتسوغ، وقال أوغلو مخاطبا زعماء العالم الإسلامي وكان أردوغان بتقديري المستهدف الرئيسي: هل يليق بزعماء الدول الإسلامية أن يظهروا في صورة واحدة بدبي مع رئيس إسرائيل، بينما التطهير العرقي يجري في غزة على قدم وساق؟ ألم يوخزكم ضميركم بالظهور في نفس الصورة مع رئيس إسرائيل بينما إخواننا المظلومون يقتلون في غزة؟ فيما أعلن فاتح أربكان رئيس حزب "الرفاه من جديد"، انشقاقه عن "تحالف الجمهور" بقيادة أردوغان، في الانتخابات المحلية المزمع إجراؤها في 31 آذار/مارس القادم. وقال أربكان أن قراره بعدم التعاون مع حزب العدالة والتنمية في الانتخابات المحلية، استند إلى أسباب عديدة بينها موقفه مما يجري في غزة وفشله في إغلاق قاعدة كورجيك رادار التي تحمي إسرائيل، والفشل في حظر الصادرات من تركيا إلى إسرائيل.
من السهل رصد المواقف الغاضبة من أردوغان في وسائل التواصل الاجتماعي جراء مواقفه من غزة، من مؤثرين وناشطين كانوا من أشد الناس حماسة للتجربة التركية والدفاع عن قائدها أردوغان في مواجهة حملات إعلامية محمومة شنت عليه من خصومه بالأمس من محركي وممولي الثورات المضادة والذين توثقت علاقاته بهم هذه الأيام وأصبحوا يتشاركون بطريقة أو أخرى مواقف متشابهة إلى حد ما من محرقة غزة. غير أن لغة الأرقام أكثر وضوحا وأفصح قولا، ففي أول استطلاع لقياس اتجاهات الرأي العربي حول العدوان الإسرائيلي على غزة، نفذه "المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات"، على عينة بلغت 8000 شخص في الفترة ما بين 12/12/2023 وحتى 05/01/2024 وشمل معظم الدول العربية والضفة الغربية، كانت اتجاهات الرأي العام العربي من قوى دولية وإقليمية بشأن العدوان على غزة لافتا وخصوصا الموقف من تركيا، فقد أظهرت النتائج عن تقييم 40% من المستطلع آراؤهم الموقف التركي بكونه سلبيا (سيء جدا 16% + سيء 24%)، فيما قيّم 34% الموقف بالجيد و13% الجيد جدا، فيما أمتنع عن التقييم والإجابة 13%.
ما هي الأسباب والتي دفعت بتركيا أردوغان للتخلي عن غزة بحسب ما يراه كثير من النشطاء؟ هل هي الحاجة الاقتصادية والرغبة بالحصول على قروض من المؤسسات الدولية كذلك القرض الذي حصلت عليه من البنك الدولي بقيمة مليار دولار، في إطار إعادة تأهيل المناطق التي ضربها زلزال فبراير/شباط 2023؟ هل تخلى اردوغان عن طموحه بأن يكون زعيما عربيا إسلاميا، ليكون زعيما تركيا براغماتي يقدم مصالح تركيا المالية عن الهموم والقيم والمبادئ التي كان يعلنها؟
بغض النظر عن الإجابات والتحليلات والمآلات، فإن تركيا أردوغان ما قبل طوفان الأقصى ليست تركيا أردوغان ما بعده!!
هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!
مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس