ياسين أقطاي - الجزيرة مباشر

جاء الخطاب الذي ألقاه رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس (أبو مازن) في البرلمان التركي حدثًا مهمًّا من نواح كثيرة، ومعيدًا لصياغة كثير من القواعد عالميًّا ومحليًّا لدى العديد من الشرائح.

ففكرة أن يحضر عباس متحدثًا أمام البرلمان التركي في البداية كانت بمنزلة رد على وجود لقاتل يداه ملطختان بالإبادة الجماعية؛ نتنياهو في الكونغرس الأمريكي واستقباله وإلقائه كلمة أمام أعضائه وتصفيقهم له بحرارة رغم وحشيته وجرائمه ضد الإنسانية التي يراها العالم كله لحظة بلحظة.

ومع ذلك، فمنذ عرض الفكرة والحديث عن إمكانية تنفيذها، طُرحت تساؤلات عما إذا كان محمود عباس هو الاسم المناسب لذلك الخطاب نيابة عن الشعب الفلسطيني؛ لأنه بصفته الممثل الرسمي لفلسطين، لم يتخذ أي موقف يُذكَر في مواجهة الإبادة الجماعية الوحشية غير الإنسانية ضد شعب غزة منذ السابع من أكتوبر/تشرين الأول.

بل إن عباس أدلى بتصريحات غير منطقية ألقى فيها باللوم على حماس بدلًا من إدانة إسرائيل، وحمَّل حماس وقادتها مسؤولية المذابح الوحشية في غزة، والهجمات التي أيقظت ضمير العالم في مختلف المناطق وأثارت الإنسانية ضد إسرائيل.

ففي الوقت الذي تتعرض فيه الضفة الغربية الواقعة تحت سيطرة حكومة عباس ليس فقط منذ أحداث السابع من أكتوبر التي تتعاون مع إسرائيل ومخابراتها، وتجند شرطتها جنبًا إلى جنب مع قوات شرطة الكيان لقمع الغضب والمقاومة في فلسطين، فإنه من الواضح للجميع أن مهمته هي ضمان أمن إسرائيل والوصول إلى حيث لا تستطيع يد الكيان بأجهزته المختلفة أن تصل، ومحاولة منع المقاومة التي تملأ كل بيت في فلسطين، والتي تهدد أنشطة إسرائيل الاستيطانية وما تقوم به من انتهاكات للمسجد الأقصى.

ولهذا وفي الأجواء التي صنعتها المقاومة الفلسطينية منذ السابع من أكتوبر، كان عباس ولا يزال خارج إطار القادة الذين يمكن أن يمثلوا الشعب الفلسطيني المقاوم أو يتحدثوا باسمه حقيقة.

ولهذا السبب فإن دعوة عباس تحديدًا للتحدث في البرلمان التركي كانت خطوة تحمل الكثير من الاستغراب لدى الدوائر الفكرية والسياسية المختلفة، حتى لو كان الأمر يتعلق بالرد على نتنياهو والكونغرس الأمريكي.

في الواقع كانت أنقرة أيضًا مدركة لما وراء هذه الدعوة من الاستغراب. ولهذا من أجل التخفيف من تلك الآثار المرتبطة بذلك الحدث إلى حد ما، كان من المخطط له أن يكون زعيم حركة حماس مرافقًا لعباس في هذه الزيارة.

ومن ناحية أخرى، كانت هذه خطوة منطقية في إطار مقاربة تركيا للمشكلة الفلسطينية ومنهجها في التعامل معها منذ البداية.

وعلى الرغم من هذه التصورات السلبية عن عباس أو الدور الذي يؤديه وحكومته منذ وصوله إلى السلطة، أصرت تركيا على اتحاد الأحزاب الفلسطينية وكل الأطراف على الساحة لتمثل فلسطين جنبًا إلى جنب، لكن استشهاد إسماعيل هنية جعل ذلك التمثيل مستحيلًا خلال هذه الزيارة.

ومن ناحية أخرى، لا يمكن تجاهل وجود عباس ممثلًا رسميًّا لكل الشعب الفلسطيني بما في ذلك حركة حماس والأجهزة التابعة لها، رغم موقفه الفعلي أو الرسمي. كما أن عباس في خطابه أمام البرلمان التركي الذي ربما لم يكن باستطاعته إلقاء مثله في أي مكان آخر سوى تركيا، قد تجاوز فيه التصور الإقليمي والعالمي عنه، وصار أقرب إلى قبوله ممثلًا عن غزة والشعب الفلسطيني، حيث لم يوجه أي اتهامات إلى حماس وقادتها، بل اتهم إسرائيل وحكومتها بشكل كامل بارتكاب جرائم الإبادة الجماعية، وأشار إلى ضلوع أمريكا في هذه الجريمة بوصفها الشريك الأول للكيان الإسرائيلي.

وحقيقة أن عباس ألقى مثل هذا الخطاب بصفته رئيسًا للسلطة الفلسطينية، وإن جاء خطابًا متأخرًا بعد أكثر من 300 يوم، تعني أنه فعل ما كان ينبغي عليه فعله منذ السابع من أكتوبر، فلم يكن محتوى خطابه مختلفًا عما كان يمكن أن يصرح به أي متحدث باسم حماس وفصائل المقاومة الأخرى، لا سيما وقد جاء خطابه بذلك المحتوى من تركيا في إطار توقعات العالم منه ومن أنقرة في أصداء ما تعيشه المنطقة من أحداث راهنة، إضافة إلى الترحيب الحار والتفاعل المتكرر من أعضاء البرلمان التركي مع خطاب عباس الذي مثَّل رسالة صريحة موجَّهة إلى إسرائيل وأمريكا وكل الذين دعموا المذابح والإبادة الجماعية، فعليًّا بالتصفيق أو التزام الصمت.

وإذا لم يتم استيعاب هذه الرسالة بوضوح، فإن الرسائل التي وجَّهها أعضاء مختلف الأحزاب التركية في البرلمان أثناء الاستماع للخطاب، تتوافق وتزيد في توضيح الرسالة الموجَّهة إلى النظام العالمي. وعلى سبيل المثال، فإن وضع نواب حزب “الهدى” صور إسماعيل هنية ويحيى السنوار على مكاتبهم وعدم مشاركتهم في التصفيق والوقوف، تكمل تمامًا الجوانب التي قد تكون مفقودة في هذه الرسالة. وقد أتم حزب “الجيّد” الجزء الآخر المفقود، حينما وضع أعضاؤه أعلام تركستان الشرقية أمامهم. فكما هو معلوم أن محمود عباس قد عبَّر خلال زيارته للصين على السياسات التمييزية في تركستان الشرقية بقوله إن الصين تحارب الإرهاب، وبينما يتعرض شعبه لمذابح مروعة منذ ما يقرب من عام، فإن عدم فعله ما كان ينبغي أن يفعله حتى الآن سيظل بالطبع عبئًا ثقيلًا عليه.

ومع ذلك، وبصفته رئيسًا لدولة فلسطين، ووصفه للأحداث في غزة بالإبادة الجماعية وتحميل إسرائيل وحلفائها المسؤولية عنها، وإحياء ذكرى الشهيد إسماعيل هنية، الذي أقاله شخصيًّا من منصبه عندما انتُخب رئيسًا للوزراء، وقراءته الفاتحة على روحه، وإعلانه أنه سيذهب إلى غزة مع جميع إخوانه، حتى لو كان كل ذلك متأخرًا، بغض النظر عما يقال هنا وهناك، كان إنجازًا كبيرًا للمقاومة في غزة وللقضية الفلسطينية، رغم ما تسعى إليه أمريكا وإسرائيل، ولعله بداية حقيقية للتوافق الفلسطيني.

عن الكاتب

ياسين أقطاي

قيادي في حزب العدالة والتنمية التركي الحاكم


هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس