ياسين أقطاي - يني شفق
إننا نعيش في أسوء حقبة، في زمنٍ يُظهر فيه الإنسان أقسى صور طبيعته، حيث يصبح ذئباً يفترس أخاه، فيحسده ويظلمه ويستغله ويأكل حقه.
ولكن، هل كان الحال مختلفًا في أي وقت مضى؟ أليست هذه هي مأساة البشرية؟ فالتاريخ يشهد تقلبات مستمرة بين الخير والشر، وكأن العالم بأسره كالبندول يتأرجح بين هذين القطبين. وهذه التقلبات لا تشمل التاريخ البشري فحسب، بل تمتد لتشمل تاريخ المجتمعات الفردية وحتى حياة الأفراد أنفسهم. وعندما نجد أنفسنا في مرحلة من مراحل هذا التأرجح، نشعر بقسوة العالم وبرود مشاعره في أعماقنا، ونتوق إلى من يزرع في نفوسنا الأمل والدفء والحب والرحمة فيمنحنا قلباً وروحاً.
الإنسان مخلوق كامل، خلقه الله في أحسن تقويم، وُضع في كون متكامل، وفي بيئة صُممت لتخدمه بكل تفاصيلها، وأُعطي تجهيزات وإمكانيات مثالية. عندما يتأمل الإنسان في توافقه مع هذا الكون، وكيف أن كل شيء مُصمم ليعمل بتناغم معه، يجد نفسه في حالة من الدهشة والذهول. ففي جسد الإنسان، يعمل عقلٌ خارقٌ يتحكم بكل شيء بدقة متناهية متجاوزًا إدراكه، ليخدمه في كل لحظة، دون أن يتدخل الإنسان بوعيٍ منه. ينظر الإنسان إلى يديه وذراعيه وساقيه وجسده فيقول "أنا"، لكنه لم يسهم في تكوين أي من هذه الأعضاء. ويتناسى أن كل ما يملك هو هبة ومنحة من الله.
لا يستطيع أن يمنع نفسه من النوم عندما يشعر بالنعاس، ولا يستطيع أن يجبر نفسه على النوم عندما يعاني من الأرق. لا يستطيع حبس أنفاسه، ففي كل نفس يستنشقه تعمل في جسده الآليات المعقدة خارج إرادته، قلبه وطحاله ورئتيه وكليتيه ومعدته وأمعائه ودماغه دمه في عروقه، وكل خلية فيه. ولا يملك إرادة لإيقاف أي منها عن العمل حتى لو شاء. وعندما يمرض عضو من أعضائه، تهتز حياته كلها. حينها يتذكر ذلك العضو، وإلا فإنه ينساه. وفي بعض الأحيان، يجد نفسه عاجزًا عن مداواة عضو مريض، فيدرك أنه ليس له من الأمر شيء، ويعي أن هذه الأعضاء ليست ملكًا له حقًا.
ومع ذلك، فإنه يسمي هذا الكيان المعقد الذي لا يملكه "أنا" ويهرع ليشارك في هذا العالم القاسي، عديم الرحمة، وهكذا يسهم في جعل العالم أكثر قسوة، ويقع في وهم أن رزقه هو من يصنعه، ويسعى للتميز والتفوق على الآخرين. والحقيقة أن كل ما يحتاج معرفته ليجد طريقه ويكتشف سر الوجود موضوع نصب عينيه. ولا يتطلب الأمر منه الذهاب بعيدًا ليكتشفه، بل يكفيه أن ينظر إلى نفسه وما حوله وإلى الكون بنظرة متأملة. ولكن الإنسان يمتنع عن قراءة هذه الحقائق. ونتيجة لذلك يضيع في سهل واسع دون أن يجد طريقه. ومتى ضل أحدهم طريقه، يدفع ثمن ذلك الجميع، لأن من يضل الطريق غالبًا ما يفقد إدراكه بأنه قد ضل، عمداً أو عن غير عمد، ويصبح غافلًا عن هذه الحقيقة.
كان النبي صلى الله عليه وسلم نوراً أضاء الدروب المظلمة، ورحمة هبطت على العالم ليهدي الضالين، ويخلص البشرية من ظلم الطغاة الذين يسعون إلى استعباد الناس وزرع الفساد في الأرض. لقد كان تجسيداً لرحمة الله وبرهانه على محبته لعباده.
نحتفل اليوم بذكرى ميلاد هذا النبي العظيم الذي بعثه الله رحمة للعالمين. فقد بعث الله الأنبياء والرسل إلى كل الأمم ليهدوهم إلى الصراط المستقيم، وقد أدى كل نبي رسالته على أكمل وجه، ولكن النبي محمد صلى الله عليه وسلم كان خاتم الأنبياء، وقدوة للبشرية جمعاء. لقد جاء بالقرآن الكريم، وطبق تعاليمه في حياته، فكان القرآن يتجسد في شخصيته وسيرته العطرة. لقد كان القرآن السائر، وكان خلقه القرآن.
ليس النبي صلى الله عليه وسلم قدوة في تفسيره للقرآن الكريم فحسب، بل هو أيضًا قدوة في جميع شؤون حياته، في تعامله مع أصدقائه وأقاربه وأعدائه وزوجاته وأولاده، وفي آدابه وسلوكه. إنه الشخص الوحيد في التاريخ الذي يمكن أن يتخذ قدوة كاملة في كل جوانب حياته بدون تردد. فكل إنسان يجد في حياته نماذج يحتذى بها، في الفكر والعمل والمهنة و السلوك، سواء كانوا كتّاباً أو فلاسفة أو شعراء أو أدباء أو فنانين أو علماء أو معلمين أو مشايخ. ولكننا نجد أن هؤلاء النماذج عادة ما يكون لديهم جوانب سلبية ومشاكل شخصية وتوترات وعقد نفسية أو عيوب شخصية تمنعنا من تقليدهم بشكل كامل.
أما النبي محمد (صلى الله عليه وسلم) فكان استثناءً كاملاً. فهو يمتلك خصائص تجعله نموذجاً يمكن تقليده حتى في أبسط الأمور، ويعطي أملاً في إمكانية تحقيق شخصية مثالية. فقد ظهرت في التاريخ العديد من الشخصيات التي اقتدت به، واتبعت نهجه فانعكس جمال شخصيته على سلوكهم وتفكيرهم. ورغم أن أحدًا لم يستطع أن يبلغ كماله، إلا أنهم قدوة حسنة للأجيال القادمة. فكلما اقترب الإنسان من النبي صلى الله عليه وسلم في أخلاقه وسلوكه، كان أقرب إلى الكمال.
إن عدم وجود نص صريح من النبي صلى الله عليه وسلم يدعو للاحتفال بميلاده، هو في حد ذاته دليل على تواضعه الشديد الذي كان يدعو إليه. ولذلك، فإن من يقول بأن الاحتفال بالمولد هو بدعة، قد يكون محقًا في كونه لم يأمر به النبي صلى الله عليه وسلم صراحة، ولكن لا شك في أن الاحتفال به فرصة عظيمة للتذكير بشخصية النبي صلى الله عليه وسلم وسيرته العطرة، فذلك يعود بالنفع الكبير على الأمة.
وقد سئل الشيخ يوسف القرضاوي عن هذا الأمر، فأجاب "إذا كنا نحتفل بذكرى ميلاد نبينا (صلى الله عليه وسلم) لتذكير أنفسنا بسيرته المباركة، وشخصيته العظيمة، والرسالة الخالدة التي أرسلها الله رحمةً للعالمين، فلا يوجد في ذلك انحراف أو ضلال"، معبرًا عن معارضته لأولئك الذين يعتبرون الاحتفال بالمولد بدعة.
في الواقع، لقد كان للمولد النبوي عبر التاريخ طابعٌ احتفالي يعكس أدنى درجات تجسيد هذا اليوم. ولكن في زماننا هذا، هناك حاجة ماسة إلى تجديد إحياء المولد وفهمه بطريقة تؤدي إلى تعزيز شخصية النبي صلى الله عليه وسلم كنموذج أقوى للمسلمين. وفي عالم قاس، فإن الحاجة إلى قلب رحيم مرسل إلى البشرية من الله أكثر إلحاحاً من أي وقت مضى. هذا العالم الظالم بحاجة إلى الإعتراض على الظلم وإعادة توزيع العدالة دون الانتقام، ومواجهة الانحرافات بما يتماشى مع العدالة في إطارها الصحيح. ولكن الأهم من ذلك هو إيقاظ الغافلين الذين يخدعون بأيديولوجياتهم، والذين يتشبثون بأسيادهم أكثر بسبب إذلالهم.
هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!
مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس