أرسين جليك - يني شفق
أؤمن بأن لكل رأي قيمة، حتى لو لم تجد أفكاركم وانتقاداتكم صدى فوريًا. فالقوة الشعبية لا تزال حاضرة، ولا تظنوا أن وسائل التواصل الاجتماعي هي القوة الدافعة وراء هذا التأثير فهي لم تعد مقياساً دقيقاً للرأي العام كما كانت من قبل. بل أصبحت عرضة للتلاعب بشكل كبير. الأهم من ذلك أن وسائل التواصل الاجتماعي تستهلك الأخبار والتطورات بسرعة فائقة، مما يحوّل القضايا التي تستوجب نقاشًا جادًا وحلولاً معمّقة إلى مجرد فقاعات زائلة. تُثار نقاشات حادة وحماسية لساعات، ثم تختفي فجأة دون أن تترك أثرًا وننسى نحن الأمر؛ إذ يبقى الجميع عند حدود منشوراتهم. وفجأة تجد أن القضية التي استحوذت على الأجندة لم يعد لها وجود، لأننا أيضًا نصبح منهكين؛ فلا يبقى لدينا رأي أو خطوات فعّالة نحو الحل. الجميع يتحدث، ولكن لا أحد يتحرك.
تتعرض مصداقية منصة "إكس" (X) على وجه الخصوص لتدهور متزايد يوماً بعد يوم. فقد أعلنت صحيفة "الغارديان" إحدى أبرز المؤسسات الإعلامية البريطانية، انسحابها الكامل من المنصة مؤخراً، مما يعد أول مؤشر واضح على بداية النهاية. أما أنا، فقد أغلقت حسابي قبل سبعة أشهر، وأنا الآن في مرحلة أبعد بكثير، وقد أدركت الآن أنني لم أخسر شيئًا. أما المكاسب التي حققتها، فأجمعها في كتاب، وهذا الكتاب بالنسبة لي إنجاز كبير، حيث يتحول يومًا بعد يوم إلى كيان ملموس.
لكنني أفتقر إلى بعض الأمور، فمثلًا أفتقد التحليلات العميقة لصديقي إسماعيل خالص. في الواقع هذه الفجوة دفعتني إلى التفكير بشكل أعمق في بعض الأمور. فقد أرسل لي إسماعيل هاليس، قبل يومين، مقاله الذي نشره على منصة "X"، يتناول فيه موضوع "البيئة الرقمية العالمية" وهو موضوع يثير اهتمامي، وقد لفت انتباهي بشكل خاص اقتباسه من الفيلسوف بيونغ تشول هان الذي كررته في ذهني ملايين المرات: "خوارزميات السرد ليست سوداء ولا بيضاء ولا رمادية. من يستطيع فهم خريطة التدفق الهائلة هذه ويقيّمها بأكثر جوانبها فاعلية سيستطيع بالتأكيد نشر سرديته الخاصة على نطاق عالمي."
لقد قرأت النص كاملاً مرتين، ودوّنت ملاحظات حول تأثير تيك توك على النظام البيئي لوسائل التواصل الاجتماعي، بما في ذلك تأثيره على صيغ المحتوى في المنصات وقدرته على تحديد وتشكيل المحتوى والأجندات.
ربما يختلف البعض معي، لكنني سأوضح الجملة التي استشهدت بها من إسماعيل هاليس كما يلي: "الخوارزميات السردية" هي مفهوم بالغ الأهمية ويحتاج إلى الكثير من التفصيل. فـ"قوة السرد" التي كانت موجودة منذ لحظة ظهور الفكر البشري، أصبحت الآن مرتبطة بقدرة الخوارزميات على التحكم. الصينيون الذين بدأوا متأخرين عن العالم، يقومون بإنشاء نظام رقمي عالمي سيحكم العالم بأسره. وبعد أوروبا، سيُخضِع أمريكا أيضًا. وسنرى تأثير ذلك في الحروب القادمة التي سيشعلها الذكاء الاصطناعي.
فما هو موقعنا، نحن المستخدمين العاديين في خضم هذه المعركة؟ في ظل تطور تكنولوجيا الإنترنت التي غزت كل جانب من حياتنا خلال الثلاثين سنة الماضية، أصبح كل شخص يستخدم الهواتف الذكية مضطراً للعيش تحت رحمة الخوارزميات. دعوني أعبر عن ذلك بوضوح، نحن في علاقة لا مفر منها مع شركات التكنولوجيا. والخط الفاصل بين قبول العيش تحت هيمنة الخوارزميات ورفضها واضح للغاية. إما أن نتوقف عن استخدام هواتفنا المحمولة، أو نوفر لها البيانات التي تطلبها منا بوفرة. وهناك خيار ثالث وهو استخدام الهواتف التقليدية، ولكنه ليس حلاً مثاليًا، بل يقلل من التأثير إلى حد ما. لقد جربت ذلك لمدة خمسة أيام، وكانت التجربة مفيدة، ولكن الخوارزميات استمرت في استخدام الرسائل القصيرة للتسويق، وتوجيه الأجندات والمحتوى، وضغط الاستهلاك.
وبالطبع من السهل مقاومة الرسائل ذات الاتجاه الواحد، ولكن من غير الممكن الاستفادة من أحدث التقنيات دون الانصياع للخوارزميات. لأن "الرأسمالية الرقمية" اليوم تطلب منا أشياء أكثر قيمة من المال، وهذا ليس كل شيء. فهم يبنون نظامًا للاستفادة اللامحدودة مما يأخذونه منا. وقد وصف تشول هان هؤلاء المتاجرين والمستفيدين من هذا النظام بأنهم "أشخاص يستغلون أنفسهم" هناك استغلال، ولكن لا يمكن إدانة أحد بالاستعمار. نعم، هناك استغلال، لكن لا يوجد من يُتهم بالاستعمار. يمكننا أن نؤكد وجود النظام الاستغلالي، ولكن لإثباته يجب أن يتوقف الإنسان عن استغلال نفسه. وهو أمر صعب للغاية في زماننا هذا.
في هذا السياق تظهر معادلة مفادها أنه كلما كنا أكثر حرية، كنا في الواقع أكثر سجنًا. قبل نحو قرن من الزمان، قال الفيلسوف اللبناني جبران خليل جبران في كتابه "الرمل والزبد" الذي جمع فيه حكمه: " كلنا سجناء، غير أن فئة منا في زنازين ذات نوافذ، وفئة لا نوافذ لزنازينها." وفي عصرنا هذا، نحن نعيش في سجن مفتوح النوافذ، ونعتقد أننا نتمتع بكل الحرية التي نريدها، ولكننا في الحقيقة أسرى. أي أن حريتنا تتغذى على أسرنا.
وبالعودة إلى عنوان المقال؛ ما مدى أهمية أفكارنا في مثل هذه الدوامة؟ إذا رفعنا رؤوسنا عن وسائل التواصل الاجتماعي، وواجهنا أنفسنا والواقع من حولنا بصدق، فقد نتمكن من التوصل إلى نتيجة. وفي استطلاع "القياس السوسيومتري" الذي أجرته مؤسسة "AREDA " في شهر أكتوبر لفتت انتباهي بعض البيانات.
وبحسب التقرير؛ فإن:
- نسبة الأشخاص الذين يرون أن التقاليد والعادات ضرورية للمجتمع تبلغ 89.6%.
- نسبة الذين يعتقدون أنه يجب الحفاظ على الأعراف والتقاليد تصل إلى 93.8%.
- نسبة الذين يعتبرون أن معظم القيم التقليدية مفيدة تصل إلى 59.9%.
- نسبة الذين يرون أنهم مرتبطون جدًا بالتقاليد والعادات تصل إلى 57.4%.
وتؤكد نتائج البحث، التي عرضت جزءًا منها ما يلي:
- 81.6% من المشاركين في الاستطلاع يرون أنه يجب رعاية كبار السن من قبل أولادهم.
وكما يتضح، عندما يتم تناول المشاكل التي يواجهها الناس اليوم في الحياة الواقعية، مثل التأثيرات التي تهدم التقاليد والعادات، والقضايا التي تهز النظام الاجتماعي والعائلي، بعيدًا عن وسائل الإعلام الاجتماعية وبمنأى عن اعتبارها مجرد مادة استهلاكية، يتضح بشكل جلي وجهة نظر المجتمع. وتتحول العبارات لتصبح ذات طابع نقدي. ويُعبّر الناس عن حاجتهم للمساعدة. أما بالنسبة للحلول، فيجب على صانعي السياسات، ومنتجي الثقافة، وأولئك الذين يقتصرون على تقديم تقارير بالمشكلات، أن يتحرروا أولًا من سيطرة الخوارزميات ويتجهوا نحو البيانات الحقيقية.
هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!
مواضيع أخرى للكاتب
مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس