د. سمير صالحة - تلفزيون سوريا

النقص الذي تسبب به "حزب الله" على الجبهة السورية لم يعوضه حضور الفيالق والكتائب والعصائب والسرايا، رغم كثافة حشود الفاطميين والزينبيين والنجباء ووعودهم الصادقة. هناك حاجة ملحة لفرق "الحشد الشعبي"، لكن بغداد لا تزال تمتنع عن إشعال الضوء الأخضر الذي تنتظره طهران.

احتمال أن يكون الهدف الحقيقي لإيران هو دفع القوات العراقية النظامية نحو التورط في المستنقع السوري، ضمن استراتيجية الدفاع عن مصالحها الإقليمية وتعميق تعقيدات المشهد السوري، ليس مستبعداً هذه المرة، لكنها قد تُجرِّب خياراً آخر قبل ذلك.

بدأت الأمور تتضح أكثر فأكثر. العملية العسكرية الواسعة التي انطلقت من إدلب تهدف، في جانبها غير المعلن أيضاً، إلى طرق أبواب النظام في أقرب معاقله، لدفعه نحو قبول حل سياسي شامل استناداً إلى القرارات الأممية والتفاهمات الإقليمية الجديدة حول ضرورة إنهاء الأزمة السورية. غير أن العائق الأكبر يتمثل في الحجر الإيراني الضخم الذي يعترض الطريق على محور حمص – دمشق، مما يعرقل أي تقدم في هذا الاتجاه. يبقى السؤال: من أين ستأتي المفاجأة التي ستجبر طهران على الإقرار بحقيقة أن النظام ينهار، ولم يعد بإمكانه الاستمرار مستنداً إلى جرعات الدعم الإيراني التي كانت تمده بإكسير الحياة؟

المسألة في غاية البساطة بعد الآن. بنفس الطريقة التي تم من خلالها تبرير سحب القوات السورية النظامية من حلب وحماه، وإعادة الانتشار، يقنع النظام في دمشق حليفه الإيراني كما فعل في حلب وحماه، أنه "حقناً لدماء آلاف المدنيين" في الأماكن المتبقية تحت سيطرتهما في سوريا، ينبغي التوقف عن القتال في معركة لا يمكنه مواصلتها.

يتخلى جنود النظام السوري عن أربع قواعد جوية ومطار حلب المدني، وتفر عناصره تحت ذريعة إعادة التموقع باتجاه حمص، حيث تتمركز الميليشيات الإيرانية بانتظار المواجهة الحاسمة. لا أحد يعرف عدد مجموعات حزب الله المتبقية، لكن المؤكد هو أنها تبحث عن معركة إعادة اعتبار بعد الضربات التي تلقتها في لبنان، وطالما أن وزير الخارجية الإيراني، عباس عراقجي، يردد أن بلاده ستدرس إرسال قوات إلى سوريا إذا طلبت دمشق ذلك.

تدعو طهران بشار الأسد لمطالبتها بالتدخل العسكري المباشر بعد فشل زيارة الوزير الإيراني الأخيرة إلى أنقرة، والتي لخصها كبير مستشاري المرشد الإيراني علي أكبر ولايتي بقوله: "لم نتوقع أن تقع تركيا، التي لديها تاريخ طويل في الإسلام، في الفخ الذي أعدّته لها أميركا والصهاينة". لكن إيران تقول إنها ليست هي من سيستجيب بل الميليشيات العراقية، بطلب سوري يسبقه اجتماع ثلاثي عراقي-سوري-إيراني. لماذا تجتمع منصة الآستانة إذاً؟ تسعى طهران للعب آخر الأوراق التي تملكها لأخذ ما تريد من أنقرة وموسكو ربما.

هناك، طبعاً، أكثر من طرف إقليمي يحلم مع هذه المجموعات بأن تعيد إيران الفصائل السورية المتقدمة إلى خط البداية. فهل يبرز سيناريو تفاهمات المصالح التي تقرب بين طهران وبغداد وبعض العواصم لتسهيل انتقال قوات برية عراقية يقودها "الحشد الشعبي" باسم هذا الاصطفاف الجديد في مواجهة الفصائل السورية؟

ممكن أيضاً عندما ترى إيران أن تدخلها العسكري المباشر سيكلفها الكثير إقليمياً ودولياً، وتجد أن لا بديل لها سوى تفعيل هذا السيناريو الذي يبقي الأسد فوق كرسيه.

خاطب الجولاني القيادة العراقية مباشرة أن لا تسقط في المصيدة. فهل تصغي لما قاله زعيم التيار الصدري في العراق مقتدى الصدر: "نراقب الوضع بدقة في الجارة العزيزة سوريا، ولا نملك لشعبها الحر الأبي بكل طوائفه إلا الدعاء عسى الله أن يدفع عنهم البلاء والإرهاب والتشدد والظلم والظلام والطائفية والتدخلات الخارجية". على الحكومة، كما يقول، منع ميليشيات الحشد أو غيرها من التدخل العسكري في سوريا، "ومعاقبة كل من يخرق الأمن السلمي والعقائدي". الصدر يتحرك باكراً، كما يبدو، كي يقوي موقف الحكومة العراقية في مواجهة الضغوطات الإيرانية التي تتواصل من كل صوب.

أعلن الرئيس رجب طيب أردوغان عن مفاجأة سياسية جديدة، تضاف إلى سلسلة المفاجآت العسكرية التي شهدناها في الأسبوع الماضي. شدد الرئيس التركي عقب اتصال هاتفي أجراه مع الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش على ضرورة أن ينخرط النظام السوري بشكل عاجل مع شعبه للتوصل إلى حل سياسي شامل. فتركيا تعمل على "تمهيد الطريق أمام مسار سياسي، وستواصل جهودها في هذا الاتجاه، خصوصاً بعد أن دخل النزاع السوري مرحلة جديدة". لذلك فإن سيناريو أن طهران ستجد نفسها مجبرة على التدخل المباشر لوقف الفصائل مستبعد تماماً في أنقرة، إذا ما كانت الدبلوماسية الإيرانية التقليدية هي التي ستقرر. أما إذا قرر المرشد أن تتقدم القوات الإيرانية باتجاه سوريا عبر العراق لإنقاذ الأسد، فسيكون عليه البحث بعد ذلك عن سبل إخراج إيران من ورطة إقليمية قد تتقدم باتجاه واحد. نهاية الأزمة السورية سيواكبها نهاية المشروع الإيراني الإقليمي وممارسات طهران في المنطقة. وما يبحث عنه البعض ويريده وينتظره هو تحريك إيران لقواتها نحو الأراضي السورية عبر الجسر العراقي.

لن تنسحب إيران من سوريا أو تتراجع عن حماية نفوذها ومصالحها التي قدمها لها النظام في عملية تبادل صفقات معقدة ومتشابكة. خطوة بهذا الاتجاه تعني تدمير كل ما شيدته في مربع لبنان وسوريا والعراق ومنطقة الخليج. لكنها لن ترسل قوات نظامية للقتال ضد الشعب السوري بعد هذه الساعة لأنها تدرك أن خطوة بهذا الاتجاه ستكون بمثابة انتحار إقليمي شامل.

تعبير المبعوث الأممي الخاص غير بيدرسون أمام مجلس الأمن الدولي قبل أيام، عن قلقه إزاء نيران النزاعات ومشاهد العنف المتصاعد التي قد تزداد سوءاً في غزة ولبنان وإمكانية تحسس ذلك في سوريا، يفعل هذه المرة سيناريو اقتراب السفينة السورية التي تبحث منذ سنوات وسط الضباب الكثيف عن ميناء أمان، وليس عن دخولها عاصفة عاتية تقودها نحو المجهول.

عن الكاتب

د. سمير صالحة

البرفسور الدكتور سمير صالحة هو أكاديمي تركي والعميد المؤسس لكلية القانون في جامعة غازي عنتاب وأستاذ مادتي القانون الدولي العام والعلاقات الدولية في جامعة كوجالي


هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس