ترك برس

أشارت الكاتبة المصرية عزة مختار، إلى أن الدراما التركية التاريخية استطاعت وضع معايير جديدة تغير المفهوم التقليدي للإنتاج الدرامي التاريخي الذي كان لا يستهوي المتابع العربي في بداية عصر التلفاز.

وفي مقال بموقع الجزيرة مباشر تحت عنوان "آفاق جديدة للدراما العربية"، ذكرت الكاتبة أن نجاح الدراما التركية ترك أثرا ملحوظا في المشهد الدرامي العربي وإن كان ظاهريا فقط، حيث أجبر المنتجين العرب على تحسين جودة الإنتاج، وتحسين تقنيات التصوير والعرض.

ووفقا للكاتبة المصرية، نجحت الدراما التركية في إبراز هوية الأمة وثقافتها وقيمها بما فتح مجالا للمنتجين العرب لنبذ فكرة أن الجمهور يطلب رديء الأعمال الفنية.

وفيما يلي نص المقال:

منذ عقود عديدة أسهمت الدراما في توثيق الأحداث الكبرى التي مرت بها البلاد العربية خاصة مصر والشام ولو بصورة مجتزأة لا تمثل الحقيقة كاملة، فغالبا ما تدخلت فيها السياسة ووجهتها وجهة لا تتصادم مع الأنظمة الحاكمة.

في السنوات الأخيرة، حاولت الدراما العربية مواجهة قضية من أخطر القضايا التي واجهتها الأمة العربية، وهي قضية الحفاظ على الهوية الثقافية في ظل العولمة الغربية، لا سيما الأمريكية وهيمنتها على الثقافة العربية والعالمية بما تملكه من وسائل انتشار متجددة لم تعد تتوقف على وسائل التواصل الاجتماعي، وإنما دخل فيها الذكاء الاصطناعي الذي يتطور بشكل هائل على مدار الساعة.

والسؤال: هل استطاعت الدراما العربية أن تحد من مخاطر تلك التحديات وتحافظ على الهوية الثقافية للأمة؟ أم أنها ظلت حبيسة الخضوع الثقافي للغرب والساسة المحليين؟ وهل هناك فرصة في ظل المتغيرات السريعة بالمنطقة مواكبة تلك المتغيرات فتنقل الحقيقة دون قيود وتسجل التاريخ بغير تزييف؟

لم يطرأ تغيير في مضمون الدراما العربية منذ مطلع الخمسينيات حتى اليوم إلا لمواكبة المتغيرات الاجتماعية والسياسية والتقنية المستحدثة، وحسب المتطلبات الثقافية العالمية، مثل إثارة قضايا تمكين المرأة، والهجرة، والحريات الشخصية.

على سبيل المثال استعرض مسلسل “عملة نادرة” إشكالية حجب ميراث المرأة خاصة في صعيد مصر، وواجه مسلسل “تحت الوصاية” قضية الوصاية على الأبناء بعد وفاة الزوج ورفض العقلية العربية لوصاية الأم على الأبناء، والمطالبة بتغيير التشريعات التي تحول دون ذلك.

وتعرضت الدراما أيضا للمشكلات النفسية والاجتماعية التي تمر بها المجتمعات العربية مثل مشكلة التغريب الذي يشعر به شباب الأمة نتيجة سوء التربية، واختيار الصحبة، والعنف الأسري، والانسداد السياسي، ويؤخذ على هذه الأعمال أنها تعرض المشكلة فقط دون أن تطرح لها الحلول الجدية أو حتى تشير إليها من قريب أو من بعيد.

أما بالنسبة للأعمال التي تمس الهوية وترسخ لحب الوطن وتبعث روح الوطنية في وجدان المتلقي، فقد احتلت مسلسلات مثل “رأفت الهجان”، و”دموع في عيون وقحة” مكانة كبيرة وجدانيا عند المشاهد العربي، وأشبعت حاجته لروح البطولة والانتصار، ثم تلاها أعمال عدة أثارت الجدل على مواقع التواصل الاجتماعي نظرا لأنها تتعلق بأحداث عاصرها الناس واختلفوا حولها مثل “الاختيار” و”الممر”.

وقد أسهم الفن العربي في ظل انتشار الفضائيات في تقريب اللهجات العربية المحلية، وتقريب وجهات النظر وإزالة حواجز كانت موجودة بالفعل، كما أثر الإنتاج المشترك في إحداث تقارب فني عربي ثقافي نسبي، لكنه على أية حال لم يحل المشكلة.

استطاعت الدراما التركية التاريخية خاصة مسلسلي “قيامة أرطغرل” و”المؤسس عثمان” وضع معايير جديدة تغير المفهوم التقليدي للإنتاج الدرامي التاريخي الذي كان لا يستهوي المتابع العربي في بداية عصر التلفاز، فحقق نجاحا ليس على المستوى التركي أو العربي أو الإسلامي، وإنما حقق نجاحا عالميا غير مسبوق أدخل عدد مشاهداتها موسوعة “جينيس” للأرقام القياسية.

هذا النجاح ترك أثرا ملحوظا في المشهد الدرامي العربي وإن كان ظاهريا فقط، حيث أجبر المنتجين العرب على تحسين جودة الإنتاج، وتحسين تقنيات التصوير والعرض طمعا في الإيرادات الواسعة خاصة حينما حققت الدراما التركية أرباحا طائلة تفوق ما أنفق فيها بكثير.

كذلك ألهمت المنتجين العرب لإعادة التفكير بشأن التاريخ، فكان المسلسل الخليجي “سمرقند” لكنه لم يلاقِ النجاح نفسه للأعمال التركية التي لاقت دعما سياسيا كبيرا، وربما كان هذا هو الفارق بين الإرادة السياسية التركية التي استخدمت الفن لمحاولة استعادة روح الريادة والبطولة.

ونجحت الدراما التركية في إبراز هوية الأمة وثقافتها وقيمها بما فتح مجالا للمنتجين العرب لنبذ فكرة أن الجمهور يطلب رديء الأعمال الفنية، وأنه مضطر لإبراز قيمة الجسد على القيمة الأخلاقية لضمان تحقيق أرباح، وذلك حينما جمعت الأسرة العربية المسلمة حول إنتاجها الذي لا يخدش حياء أفرادها مع توفر عنصر الإثارة.

هناك العديد من الفرص المتاحة التي تتيح لمنتجي الدراما الجادة نشر أعمالهم بعدما ثبت أن المشاهد نفسه يبحث عن تلك الأعمال التي تجمع بين الأصالة والتطوير، فهناك المنصات الرقمية التي تتيح للعمل الوصول لأكبر عدد من المشاهدين، التي ساندها تنامي الوعي المجتمعي الذي أصبح قادرا على الانتقاء والالتفاف حول الأعمال التي تستحق النجاح.

وبينما عالم اليوم يسعى الحفاظ على ثوابته الثقافية بما فيه أوروبا التي تحاول الفكاك من الأمركة القسرية للثقافة العالمية، يجب علينا الرجوع للمحتوى المحلي النابع من التراث العربي والإسلامي والملاحم التاريخية القديمة والحديثة، خاصة أننا نعيش فيها بالفعل، وقد سطرت منها غزة وسوريا بطولات خارقة سوف يكتبها التاريخ في أنصع صفحاته، ويجب كذلك إبراز قيمة التعليم في تلك الأعمال المقدمة وقدرته على التغيير الإيجابي.

إن الاستعداد للقادم يجب أن يتم مبكرا قبل أن يزهد المتابع للمنتج العربي الفني لابتعاده كل البعد عن الواقع المعاش، يجب على شركات الإنتاج أن تنتبه وتقدم أعمالا تليق بمرحلة تغيير حضاري كبرى، وتلائم العقلية الواعية الجديدة في الشارع العربي.

ومع ذلك فإنه رغم التحديات الكبيرة التي يواجهها الإنتاج العربي إلا أنه يملك فرصا كبيرة عليه أن يستثمرها، الانتقاء من أرفف المكتبات الأدبية والتاريخية والواقعية، وتقديم حلول لا تتعارض مع تلك القيم.

يمكن للفن العربي أن يتبوأ دوره الحقيقي، فهل يفعلها القائمون عليه؟

هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!