ندرت أرسنال - يني شفق

تلخص النخبة الأمريكية التوتر القائم بين أوروبا والولايات المتحدة بقولها: "إن الخطابات التي ألقاها نائب الرئيس فانس ووزير الدفاع هيغسيث لم تكن مجرد هجوم لفظي على الحلفاء، بل هي أيضًا رفض تام لسياسة الولايات المتحدة الخارجية التي استمرت ثمانين عامًا". (إدارة ترامب تهاجم أوروبا والناتو، د. فيلكينز، 20/02، ذا نيويوركر).

يمكنكم أن تقولوا لهم صباح الخير، أو لقد فات الأوان.

ورغم أن التقييم صحيح، إلا أن علاقة "السبب بالنتيجة" لا تزال خاطئة. إن ربط تخلي الولايات المتحدة عن أوروبا وحلف الناتو" مباشرةً بشخص دونالد ترامب وحده يعكس نوعًا من العمى الاستراتيجي تجاه "نهايتهم الوشيكة". والأمر نفسه ينطبق على الإدارات الحالية في أوروبا.

في الواقع، إن التحولات الجيوسياسية والاستراتيجية العالمية التي قرأتم بوادرها في هذا العمود على مدى السنوات الخمس الماضية ليست سوى انعكاس لمحاولات الغرب التشبث بمكانته العالمية، كما أنها تمثل في الوقت ذاته ملامح الانحلال العالمي. أما في سياق السياسة الخارجية، فقد كانت تعقيدات التعددية القطبية، وتحول وظائفها ومشتقاتها، بمثابة نوع من "البرزخ العالمي"

والمثير للسخرية أنهم لم يعودوا حتى يعرفون كيف يندهشون؛ فالحلف الأطلسي الذي صمد ثمانين عامًا يتداعى، والدول الأوروبية، بما في ذلك بريطانيا، تحاول تطوير نوع من المقاومة تجاه الولايات المتحدة، هناك انزياح في المركز الاستراتيجي للأرض، ورغم ذلك فإنهم يختزلون كل هذا المشهد في مسألة "ترامب يتصرف بفظاظة" يا لها من سذاجة!

ترامب بلا شك هو "المحفز الأكبر"؛ إذ يعمل على تقويض النظام القائم. وقريبًا لن يبقى أحد من القادة الأوروبيين الحاليين. لكن المدة الزمنية المطلوبة لاستكمال الفترة الانتقالية ولتحديد اللاعبين الرئيسيين تتجاوز عمر ترامب السياسي. وهذا يعيدنا إلى نقطة تحدثت عنها سابقاً مرتين على الأقل: الرئيس الأمريكي لعام 2028، فهو من سيحدد المسار أو يضع اللمسات الأخيرة. أما ترامب فدوره لا يتعدى تمهيد الأرضية لهذا التغيير الجذري.

وأما "رجال النظام القديم"، فهم ينظرون إلى هذه المرحلة الممتدة لأربع سنوات على أنها فترة مقاومة، يتعين عليهم تحملها حتى انتهاء رئاسة ترامب، إلا أن هذا لا يؤدي سوى إلى دفعهم بسرعة أكبر نحو هاوية لا عودة منها.

إذا أردنا التكهن بشأن رئيس 2028، فلا شك أن الاسم الأول الذي يتبادر إلى الذهن هو إيلون ماسك، فهو الشخص الذي يجسد كل شروط النظام الجديد، وقد يُشار إلى أن ولادته خارج أمريكا تشكل عائقًا قانونيًا، ولكن بالنظر إلى الظروف الحالية والقرارات التي اتخذها ترامب، فإن هذه ليست عقبة لا يمكن تجاوزها، سيتم حل الأمر.

وفي ديسمبر 2024، أدلى ترامب بتصريح قال فيه مازحًا: "لا يمكن أن يصبح ماسك رئيسًا. لأنه لم يولد هنا. لذا فأنا مطمئن". وإذا نظرتم إلى الأمر من هذا المنظور، فقد قال ابن ماسك أيضًا: "أنت لست رئيسًا، أغلق فمك". بيد أن القضية ليست في المنافسة بين ترامب وماسك، بل في أن النخب الليبرالية التي ترى في هذا فرصة لإثارة الانقسامات والخلاف، وتشن حملة "من يدير أمريكا؟" بينما هم أنفسهم قد وضعوا صورة ماسك على غلاف مجلة تايم متصدرا المشهد في المكتب البيضاوي.

هل سيحقق هذا أم لا؟ هذا موضوع آخر. في النهاية هي مجرد فرضيات، لكن المؤكد هو أن "العملية" ستستمر بغض النظر عمن سيصبح الرئيس القادم. ومن المحتمل أن تصل إلى نهايتها. وما سيحدث لأوروبا، وما ستتحول إليه أمريكا، وإلى أين ستمضي روسيا، وما إذا كانت الصين ستصعد أم ستتراجع، كل ذلك جزء من هذا المشهد. ولكن الأهم هو كيفية بناء النظام الاقتصادي الجديد، إذ ستُعاد صياغة الجيوسياسية بناءً عليه.

حتى لو رحل زيلينسكي، فلدينا مصالح في أوكرانيا.

وبينما كانت الولايات المتحدة وروسيا تسعيان إلى إبعاد الجميع، بما في ذلك كييف وأوروبا، عن طاولة المفاوضات في الرياض، جاءت زيارة زيلينسكي إلى أنقرة في توقيت ملفت. فهل لهذه الزيارة دلالة خاصة؟

لقد طورت تركيا ونفذت سياسة فريدة تجاه أوكرانيا، تختلف عن سياسات بقية الدول كلها، بما في ذلك أطراف الحرب المباشرة، ووصلت إلى أقرب نقطة للسلام في إسطنبول. ونحن نعلم من هي الجهات التي سعت إلى عرقلة تلك الجهود وإفشالها.

ورغم ذلك بقيت أنقرة ملتزمة بموقفها الأخلاقي والدبلوماسي، وهو ما حظي بتقدير عالمي. ومع ذلك هل يمكن أن تكون أنقرة قد شعرت بخيبة أمل لعدم استضافتها للمفاوضات؟ ربما. وإذا كان لديها هذا الشعور، فمن حقها أن تعاتب. فقد حافظت تركيا على نزاهتها خلال الحرب، وتستحق أن تكون على طاولة المفاوضات.

ناهيك عن أن لأنقرة مصالح أيضًا. فتركيا لديها علاقات خاصة مع كل من أوكرانيا وروسيا، وقد نجحت في إدارة هذه العلاقات دون الإضرار بأي طرف. فمسألة أمن البحر الأسود، والعلاقات التجارية مع البلدين، والتعاون الدفاعي مع أوكرانيا، فضلًا عن ملفات الطاقة مع روسيا، كلها قضايا مهمة لأنقرة.

ولا شك أن الولايات المتحدة تدرك أنه بينما تدفع أوروبا لبذل المزيد من الاهتمام والاستثمار في الدفاع، فإن هذه الأخيرة تبحث عن صيغة دفاعية مستقلة وخاصة بها، وتنظر إلى تركيا من طرف خفي في هذا السياق، حتى بريطانيا تستعد للمقاومة. كما أن تركيا تحافظ على موقفها الداعم لوحدة الأراضي الأوكرانية. لكنها في الوقت نفسه تعلم جيدًا من بدأ هذه الحرب، ومن قام بتغذيتها، ومن يتحمل مسؤولية مقتل مئات الآلاف.

فضلًا عن ذلك، فإن تركيا قادرة على أن تراقب بسهولة كيف تتشكل خطوط التوتر بين أمريكا وروسيا والتي تتسع رقعتها يومًا بعد يوم. وهي حاليًا في علاقات جيدة مع بريطانيا أيضًا، وهو أمر لا يمكن أن يغيب عن إدراك القوى الدولية.

بالطبع هناك طريق سهل أيضًا؛ يدخل زيلينسكي مرحلة خطيرة بشكل متزايد، وبأبسط تعبير يتحول إلى هدف لقوتين عظميين.

وقد صرح ترامب قائلاً: "زيلينسكي سرق منا 350 مليار دولار ليخوض حربًا لا يمكن كسبها. عليه التحرك بسرعة وإلا فلن يبقى لديه بلد". والأسوأ من ذلك، اتهامه لزيلينسكي بـ"الديكتاتورية" ودعوته لإجراء انتخابات، كلها إشارات إلى أن أيام زيلينسكي السياسية باتت معدودة.

وتصريحات وزير الخارجية التركي هاكان فيدان، قبل يوم واحد فقط من زيارة زيلينسكي، كانت أيضًا في مكانها، حيث قال: "في عالم مثالي، نود رؤية وحدة أراضي أوكرانيا محفوظة. لكننا في زمن حرب، وللأسف قد نضطر إلى اتخاذ بعض القرارات المؤلمة".

وعندما يحين وقت مناقشة القضايا مع أنقرة يجب على ترامب أن يرى أن تركيا موجودة "في كل خريطة خالية من الصراعات".

عن الكاتب

ندرت أرسنال

صحفي وكاتب تركي


هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس