
ترك برس
قدم الخبير والمحلل السياسي التركي نيدرت إيرسانال، تقييما للتحولات الجيوسياسية في العالم، مع التركيز على التقارب المتسارع بين الولايات المتحدة وروسيا وتأثيره على أوكرانيا وأوروبا وحلف الناتو.
كما ناقش إيرسانال في مقال بصحيفة يني شفق التغيرات الداخلية في السياسة الأمريكية، مثل إقالات واسعة في المؤسسات الأمنية والاستخباراتية، ودورها في إعادة تشكيل السياسة الخارجية.
بالإضافة إلى ذلك، استعرض الكاتب موقف تركيا في ظل هذا النظام العالمي الجديد، حيث تتغير موازين القوى وتنشأ تحالفات جديدة تضم دولًا من الشرق والغرب، مما يفرض على أنقرة تحديات وفرصًا استراتيجية في المرحلة القادمة.
وفيما يلي نص المقال:
إن سرعة التقارب بين الولايات المتحدة وروسيا تكاد تضيف بُعدا رومانسيا إلى السياسة الخارجية.
لم يكد لقاء الرئيسين يُعقد بعد، حتى بدأت العاصمتان في تبادل المجمالات والتصريحات التي تثير غيرة "العشاق القدامى". إذ تضرب هذه الهجمات الدبلوماسية بعنف كلاً من أوكرانيا وأوروبا وإنجلترا، بل وحتى المؤسسات والمنظمات الدولية التي كانت تتعاون مع الهيكل العميق للولايات المتحدة. باختصار، من الصعب تمالك الدموع.
إذا بدأنا من الداخل الأمريكي، فإن الموجة الأخيرة أطاحت برئيس هيئة الأركان الأمريكية المشتركة، الجنرال تشارلز براون الابن، فأقيل من منصبه. وقد بدأنا من البنتاغون لأنه المثال الأبرز، ولكن المذبحة التي يرمز إليها "المنشار الكهربائي" في يد إيلون ماسك طالت العديد من المؤسسات الحيوية مثل مكتب التحقيقات الفيدرالي ووكالة المخابرات المركزية ووزارة العدل ووزارة الخارجية، وعشرات الآلاف من الموظفين. وبحسب نيويورك تايمز، فإن عمليات الإقالة داخل وكالة الاستخبارات المركزية تعدّ الأكبر خلال الخمسين عامًا الأخيرة، وفقًا لتقريرها المنشور في 20 فبراير تحت عنوان (وكالة المخابرات المركزية تخطط لأكبر عملية تسريح جماعي منذ ما يقرب من 50 عامًا).
ويمكن سرد المزيد من الأمثلة، لكن الأهم هو فهم الأسباب الكامنة وراءها: التخلّص من بقايا الحقبة السابقة التي طالما عارضت السياسات الجديدة، وتقليص النفقات، وتصفية حسابات سياسية، ولكن الأبرز هو اعتقاد إدارة ترامب وحلفائها بأن هذه الكوادر جزء من "الدولة العميقة" التي عملت وتعمل على عرقلة سياساتهم. وليس هذا بعيدا عن الحقيقة، لدرجة أنهم يشكون في أنه حتى قاعدة فورت نوكس الشهيرة، التي تخزَّن فيها احتياطات الذهب الأمريكية، قد تعرّضت للنهب.
ولكن هذا الجزء يهمنا إلى حد ما. وانعكاساته على السياسة الخارجية الأمريكية مختلفة تمامًا؛ فلم يعد تهميش زيلينسكي أمرًا يستدعي التعليق، وكذلك إذلال الدول الأوروبية وبريطانيا. لكن المشهد غير المتوقع الذي يُوحي بتحالف أمريكي-روسي، دون الحاجة إلى فترة انتقالية هو أمر مختلف تمامًا؛ ويستعد بوتين لإعلان النصر في الذكرى السنوية لحرب أوكرانيا في 24 فبراير.
وفي قمة مجموعة السبع، عارضت الولايات المتحدة البيان الذي وصف روسيا بأنها "معتدية". وبدلاً من ذلك، أصرت على استخدام مصطلح "الصراع الأوكراني" وليس "العدوان الروسي". وبالتالي، رسمت خطا أحمر جديدا أمام "أكثر الدول تقدمًا". واعتبرت هذه الخطوة مقدمة لعودة روسيا إلى مجموعة السبع. وفي اجتماع الأمم المتحدة الأخير، صوّتتوا ضد القرار الداعي إلى انسحاب روسيا الفوري من أوكرانيا، بينما امتنعت الصين عن التصويت.
وفي مشروع قانون قدمه الجمهوريون إلى الكونغرس الأمريكي، ينص على أنه "يجب على الرئيس إنهاء عضوية الولايات المتحدة في الأمم المتحدة بالكامل وقطع العلاقات مع جميع المؤسسات واللجان والوكالات التابعة للأمم المتحدة" بل إن مقدّمي المشروع وصفوا الأمم المتحدة بأنها "منظمة زائفة".
لكن التطور الأكثر إثارة للدهشة بالنسبة لي هو أن وزير الدفاع الأمريكي هيغسيث الذي شارك في اجتماع وزراء دفاع الناتو الذي عقد في بروكسل الأسبوع الماضي، لم يرد على سؤال حول التزامه بالمادة الخامسة، وهي المادة الأكثر أهمية في المنظمة، حيث تنصّ على الدفاع المشترك وأن "الاعتداء على أحد الأعضاء هو اعتداء على الجميع"، إن عدم الالتزام بهذه المادة يعني نهاية حلف الناتو وتقويض الأساس الذي بني عليه. فماذا يبقى من الناتو إذا انهارت هذه المادة!
الخلاصة هي أن الأرضية سيئة.
وإذا نظرنا إلى التطورات الحالية، فإن ما قلناه قبل ثلاث سنوات يتحقق تمامًا: "إذا خسر زيلينسكي، سيخسر الغرب والناتو، وسيدخل الاتحاد الأوروبي وأوروبا في فترة من عدم اليقين. وبالطبع، الولايات المتحدة أيضًا. والفرق الوحيد هو أن أمريكا دخلت فترة مختلفة، لكن العلاقة بين السبب والنتيجة تظل كما هي.
وأما بالنسبة لتركيا؛ فإن أحد العوامل الحاسمة سيكون المسار الذي ستسلكه أنقرة. أولئك الذين لا يزالون عالقين في النظام القائم يحاولون العثور على إجابات باستخدام "عدة الأدوات القديمة". وهذه سياسة خارجية تبحث عن فرص من خلال الاعتماد على عادات الحرب الباردة والتوترات بين الولايات المتحدة وروسيا، وهي تبحث عن فرص على ضوء هذه التوترات. لكننا الآن نعيش في فترة لا يوجد فيها عداء بين القوى العظمى. إذًا؟ ليس لديهم إجابة على هذا...
إنهم يشعرون بالحاجة إلى وصف العالم الجديد، ولكن هذا ينشأ من نوع من "الحاجة إلى المأوى والبحث عن الأمان". إنهم يعترفون أن "كل شيء يتغير"، ولكن ـ وقد كان الوصول إلى هذه النقطة صعبًا جدًاـ يحاولون فهم العالم الجديد باستخدام نفس الزوايا القديمة. "لا يستطيعون تغيير الرؤية".
لقد أظهر لنا الماضي القريب أن أي مجلة غربية لن تضع تركيا وقائدها على غلافها لأنها تحبهما كثيرا. وقبل بضع سنوات، كانوا يصفونهم جميعا بـ "الديكتاتوريين". لأن القادة الغربيين الذين قدموا هذه الأغلفة للجمهور اعتقدوا ذلك. وهم لا يزالون يعتقدون ذلك الآن. لأنهم لا يزالون في السلطة، ولكن لأن وضعهم ليس كذلك - انظروا إلى الانتخابات الألمانية - بدأت هذه الأغلفة في التصميم. هذا يعني أنهم "يعرفون" أننا نعرف ما يجب القيام به، يمكنكم أن تفهموا ذلك من سياساتنا تجاه أوكرانيا، مثلاً.
ورغم أنه من السابق لأوانه، إلا أن هناك بعض النماذج المحتملة؛ من بين هذه النماذج هو أن الفترة الجديدة ستشهد تنافس بين مجموعة روسيا والهند والولايات المتحدة ومجموعة بريطانيا والاتحاد الأوروبي والصين. وبالتالي، نحن نتحدث عن غربين، أحدهما يحتوي على عناصر شرقية. من ناحية أخرى، هناك مجموعة أخرى تتكون من أوراسيا ومنظمة الدول التركية وأفريقيا وأمريكا اللاتينية وبعض دول آسيا البعيدة. كما يمكن الحديث عن انخفاض حماسة منظمات مثل بريكس ومنظمة شنغهاي للتعاون.
ونظرًا لكوننا في مرحلة انتقالية، إلى النظام الجديد فإن هذه النماذج وأمثالها تبقى عمومية وتختفي الألوان الوسيطة. كما أنها تظهر تركيا وكأنها عالقة في هذا الوسط. ولكن أنقرة لديها خطة لكل منها. الساحة هي هذه. هذا هو الوضع. دعونا نواصل الحديث في المقال التالي.
هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!