ترك برس

تناول مقال تحليلي للسياسي التركي المعروف ياسين أقطاي، أبعاد دعوة عبد الله أوجلان، المسجون في تركيا، لتنظيمه "بي كي كي" الإرهابي لإلقاء السلاح، استجابةً لمبادرة زعيم حزب الحركة القومية دولت بهجلي.

وأشار أقطاي في مقاله إلى أن الظروف السياسية الحالية لم تعد تبرر استمرار العمل المسلح باسم القضية الكردية، لافتا إلى التغيرات الإقليمية، مثل سقوط نظام الأسد وضعف الدعم الخارجي للتنظيم، مما يجعل هذه المبادرة أكثر قابلية للتنفيذ مقارنة بالمحاولات السابقة.

وناقش المقال دور القوى الدولية، مثل الولايات المتحدة وإسرائيل، في محاولة استغلال التنظيم كورقة ضغط ضد تركيا وسوريا، محذرا من التحديات المحتملة التي قد تواجه هذه المبادرة.

وفيما يلي نص المقال الذي نشرته صحيفة يني شفق:

إن دعوة عبد الله أوجلان لتنظيم "بي كي كي" الإرهابي لإلقاء السلاح، استجابةً للنداء التاريخي الذي أطلقه دولت بهجلي رئيس حزب الحركة القومية، تؤكد استمرار الأيام الغريبة التي بدأت في 22 أكتوبر، لكنها جميلة للغاية هذه المرة. وإذا كانت هذه التطورات التي كانت أشبه بالمستحيل قد تحققت، فليس هنالك ما يمنع أن نشهد أيامًا أجمل وأفضل.

فلم نكد نتجاوز صدمة هذه المبادرة الشجاعة في 22 أكتوبر، حتى شهدنا قصة انتصار عظيم بدأت في 27 نوفمبر واختتمت في 8 ديسمبر، قصة تحرر شعب مظلوم من قيوده بعد أن تعرض لجميع أنواع الاضطهاد والظلم على مدى61 عامًا، وقصة انتصاره على ظالمه. وإذا كنا قد شهدنا هذا أيضًا، فلماذا لا تكون هناك أيام أجمل لتركيا التي وقفت بجانب سوريا والشعب السوري حتى الآن؟

لقد كانت دعوة بهجلي لأوجلان خطوة مفاجئة وجريئة للغاية، ولكنها حملت في طياتها إمكانيات قوية لإيجاد حل. فقد قدمت اقتراحًا جعل الغالبية العظمى من الشعب التركي تتساءل: "ولِمَ لا؟"، وهذا ما جعلها مبادرة ناجحة. فبعد أن وصلت العملية السياسية إلى طريق مسدود بالنسبة لجميع الأطراف، وعندما بات المشهد ضبابيًا وغير واضح المعالم، جاءت هذه المبادرة لتشق أفقًا جديدًا وواضحًا.

أما التنفيذ العملي لهذه المبادرة في 27 فبراير، فقد جاء بتحوير بسيط عن اقتراح بهجلي. إذ لم يعلن أوجلان عن موقفه في اجتماع لكتلة حزب "DEM " في البرلمان التركي، بل جاء الإعلان من خلال مؤتمر صحفي عقب سلسلة لقاءات مكثفة أجراها مسؤولو الحزب. وكان هذا بالضبط هو الجانب الذي أثار أكبر قدر من الجدل في اقتراح بهجلي، حيث بدا صعب التنفيذ من الناحية العملية، فضلًا عن كونه غير مقبول منطقيا. لكن عدم إصرار أي طرف على هذه النقطة أثبت أن الهدف الأساسي للمبادرة لم يكن التوقف عند التفاصيل، بل تحقيق النتيجة الإيجابية المرجوة.

 

مناخ يبطل فاعلية الأسلحة

دعا عبد الله أوجلان في رسالته إلى حل التنظيم قائلاً: "إنني، وفي ظل المناخ السياسي الذي تشكّل بفعل دعوة السيد دولت بهتشلي، والإرادة التي أظهرها السيد الرئيس، والموقف الإيجابي الذي اتخذته بقية الأحزاب، أتحمل المسؤولية التاريخية لهذه الدعوة إلى إلقاء السلاح." وبذلك، أشار أوجلان إلى المناخ الذي تشكل اليوم، وهو مناخ لا يسمح لأي طرف بالتحرك خارجه، إذ إن من يتجاهل هذا المناخ سيجد نفسه خارج مسار التاريخ وخارج المعادلة السياسية.

ولكن ما هو هذا المناخ؟ في الحقيقة، أوجلان نفسه هو من حدّد معالمه، إذ لم تعد الظروف السياسية والعوامل التي أدّت إلى نشوء "القضية الكردية" قائمة، مما يعني أن القضية الكردية قد حُلّت إلى حدٍّ كبير. وبهذا لم تعد الوسائل المسلحة وسيلة مشروعة لتحقيق أي مكاسب سياسية باسم الأكراد. وإن كانت للأكراد مشاكل لا تزال قائمة، فيمكن حلّها بسهولة ضمن إطار السياسة الديمقراطية. وبالتالي، لم يعد هناك أي مبرر لاستمرار العمل المسلح باسم الأكراد أو من أجل قضيتهم، وأي سلاح يُرفع بعد الآن باسم الأكراد لن يكون إلا لخدمة أجندات قوى أخرى وأطراف خارجية.

فهل تشكّل هذا المناخ اليوم فقط؟ لا شك أن التطورات التي شهدتها الساحة السورية عززت هذه الدعوة، وخلقت ظروفًا أكثر قوة تصب في مصلحة تركيا. ولكن حتى قبل ذلك، كانت هناك ظروف مشابهة ـ ولو بدرجة أقل ـ قبل 15 عامًا، حينما وجّه أوجلان نداءً مماثلًا خلال عملية السلام آنذاك.

لم يوجه أوجلان هذه الدعوة للمرة الأولى

لقد صرّح أوجلان في ذلك الوقت بأن "زمن السلاح قد ولّى"، وأن القنوات السياسية الديمقراطية باتت كافية لمعالجة القضية الكردية. وقد التزم تنظيم "بي كي كي" الإرهابي لفترةٍ وجيزة بهذا الموقف، فشهدت تلك الفترة وقفًا طويلًا لإطلاق النار خلال مسار عملية السلام. وفي المقابل لم تكن الدولة تشنّ عمليات عسكرية ضد التنظيم، بل كانت تتوقع منه التخلي عن السلاح وسحب مقاتليه إلى خارج البلاد. غير أن التطورات التي شهدتها سوريا لاحقًا أغرت التنظيم بالعدول عن هذا المسار. فقد دخلت الولايات المتحدة على خط المواجهة ضد تنظيم داعش، وكلفت التنظيم بمهمة الحرب ضد داعش، وأكسبته موقعًا تفاوضيًا أقوى. وهكذا تحولت العملية التي أطلقها أوجلان إلى مسار غير مغرٍ بالنسبة للتنظيم، بعد أن وجد نفسه أمام فرص أخرى أكثر جذبًا في المعادلة الإقليمية.

وتبيّن خلال ذلك أنه لا أوروبا ولا الولايات المتحدة ولا حتى النظام السوري يرغبون في رؤية تركيا خالية من الإرهاب. بل على العكس، فرغم أن المسألة الكردية في تركيا كانت قد حلت إلى حد كبير لا سيما عهد أردوغان، مما لم يُبقِ أي مبرر لحمل تنظيم "بي كي كي" السلاح، فإن هذه القوى لم تُرد للحزب أن يُلقي سلاحه. وهكذا بقيت دعوة عبد الله أوجلان معلّقة لم تنفذ، فيما توهّم تنظيم "بي كي كي" الإرهابي أنه قادر على تعزيز قوّته أكثر فأكثر بفضل الدعم الأمريكي والأوروبي.

لا شك أن هناك أسبابًا كثيرة تجعل دعوة 27 فبراير تحظى بفرصة أكبر للنجاح. فنظام الأسد الداعم الكبير لتنظيم "بي كي كي" الإرهابي، لم يعد موجودا، كما أن إيران لم تَعُد قادرة على توفير الدعم اللوجستي الذي كانت تحصّله عبر نظام الأسد. وفي الداخل التركي، لم تَعُد هناك بيئة مواتية لتمدد الإرهاب، لا من حيث الإمكانيات المادية، ولا من حيث السياسات الإقصائية التي كانت تغذّي الدعم البشري للإرهاب. وفي ظل هذه المعطيات، تمثل دعوة أوجلان فرصة وخيارًا لتنظيم "بي كي كي" الإرهابي للخروج من مأزقه.

بالتأكيد لا تزال هناك تهديدات في سير العملية

يتضح بشكل متزايد أن الوجود الأمريكي الذي تقوده إسرائيل في سوريا يطالب الدولة السورية الجديدة بأن تنأى بنفسها عن تركيا لرفع العقوبات والحصار عنها. وبالطبع، يقاوم النظام السوري هذه الضغوط، ولكن للمقاومة ثمن. ولذلك يتعين على تركيا تطوير سياسة لمواجهة احتمال تحويل الولايات المتحدة وجود تنظيم "بي كي كي" الإرهابي إلى ورقة ضغط ضد النظام السوري.

وبالطبع لن تقف تركيا مكتوفة الأيدي، ولكن في ذات الوقت، هناك احتمال أن تؤثر الفرص المغرية ـ لكنها بالطبع فرض زائفة ـ والتي ينتجها هذا الحصار على بعض الأطراف داخل قنديل.

وفي مقالٍ على موقع "تذكرة نت"، يختتم الدكتور في علم الاجتماع، فيصل قاراطاش، تقييماته لدعوة أوجلان بتحذيرات مهمة وحقائق ضرورية، ولكنها موجهة هذه المرة إلى تركيا وليس إلى تنظيم "بي كي كي" الإرهابي. إذ إن العملية التي تم الانخراط فيها تتطلب من الجميع أن يكونوا في غاية الحذر.

وبعد أن استعرض قاراطاش تأكيدات أوجلان في دعوته وتحليلاته للظروف والأسباب التي دفعته إلى تأسيس تنظيم "بي كي كي" الإرهابي، يقول: "إن هذه الكلمات تظهر أنه يربط شروط وجود التنظيم ببنية الدولة القومية قبل 40 عامًا تقريبًا" ويقول "الآن، بما أنه حل نفسه، فإن كيفية تحديد البنية المقابلة له اتجاهها في مواجهة هذا الواقع الجديد يظل أحد الموضوعات الرئيسية المثيرة للاهتمام. ويظل كذلك لأن التصريحات التي صدرت حتى الآن لا تشير إلى تقديم أي شروط أو مطالب إضافية لتأطير هذه العملية. وبالتالي من المحتمل أن يواجه الكيان البديل، الذي تسبّب في نشوء الكيان الأول، تساؤلات حول سبب وجوده أو كيفية تحديد مساره" وأكد كاراطاش أنه في ظل تحقيق هذا الأساس الجميل، فإن المسؤولية الأخلاقية تقع الآن على هذا الجانب، وأنه يجب الانتباه إلى الأسلوب واللغة.

بالطبع، هناك حاجة لبعض التساؤلات المتأخرة إلى حد ما، وأيضًا بعض اللباقة والرقي الذي يتطلبه هذا المسار، دون ترك الساحة للمتشددين السياسيين. وكما أشار قاراطاش، فإن "27 فبراير كان يومًا كاملًا"، وينبغي أن يبقى يوما واحدا فقط.

هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!