ترك برس

لم تخبُ بعد نيران حرب البلديات الدائرة بين الحكومة التركية وحزب الشعب الجمهوري أكبر أحزاب المعارضة، مع استمرار الحكومة في الكشف عن المزيد من قضايا الفساد الإداري والمالي في البلديات التي يترأسها ويديرها أعضاء من المعارضة.

ورغم استمرار المواجهة الدائرة بين الطرفين، وامتدادها على أكثر من صعيد فإن حزب المعارضة الرئيس يرى على ما يبدو أن توسيع نطاق هذه الحرب، وزيادة حدة الخلاف القائم بينه وبين الحكومة سيمنحه مقدرة أكبر على استقطاب المزيد من المواطنين، وضمهم إلى جبهته المعارضة بهدف إيجاد حالة من الغضب الشعبي المتصاعد للضغط على الحكومة، وإجبارها على اتخاذ قرار الدعوة إلى إجراء انتخابات عامة مبكرة.

تحقيقا لهذا الهدف لم يكتف حزب الشعب الجمهوري بمحاولات تأليب الشارع على الحكومة مستغلا الأزمة الاقتصادية، والارتفاع المستمر في تكاليف الحياة اليومية، ومعاناة سكان مناطق زلزال فبراير/شباط 2023، الذين لا يزالون يقيمون في ملاجئ مؤقته، وتسليط الضوء بقوة على هذه القضايا في وسائل إعلامه المختلفة، وإنما سعى أيضا لإثارة المزيد من القضايا والملفات الخلافية الحساسة، التي تتعارض فيها بشدة المواقف ووجهات النظر بينه وبين الحكومة.

فقد أعاد طرح الخلاف حول مشروع قناة إسطنبول مجددا على الساحة، وفتح نقاشا موسعا بشأنها عارضا من خلال وسائل إعلامه المقروءة والمسموعة والمرئية وجهة نظره ورؤيته للأخطار التي ينطوي عليها إصرار الحكومة على المضي قدما في تنفيذ هذا المشروع.

ولكي تصبح القضية أكثر تشويقا وإثارة لغضب الشارع التركي كان لابد من الزج بالعرب في الموضوع، إذ استغل الحزب إعلان الحكومة عن مشروع سكني جديد يقع في منطقة سازليديره لتوفير مساكن للمواطنين الأتراك الذين يقيمون في مساكن مستأجرة، ويعانون جراء الارتفاعات السنوية الفاحشة لقيمة الإيجارات الشهرية.

قيادات حزب الشعب الجمهوري شنت حملة ممنهجة لمواجهة الأمر، وفتحت النار على المشروع مدعية أن هذه الوحدات السكنية التي تم الإعلان عنها هي جزء من مشروع قناة إسطنبول، وأن هناك الكثير من هذه الوحدات السكنية تم بيعها فعلا لمواطنين من الدول العربية، متهمة الحكومة بالمضي قدما في تنفيذ مشروع القناة رغم أنوف سكان إسطنبول المتضررين من جراء هذا المخطط وفق وجهة نظرها.

وطالبت سكان المدينة التاريخية بضرورة التصدي سريعا لهذه التحركات الفردية من جانب الدولة، للحيلولة دون إتمام المشروع قبل أن يتفاقم الأمر ويصبح من العسير وقفه، خاصة بعد أن تصاعدت وتيرة العمل في جسر سازليديره الذي سيربط بين العديد من المناطق الحيوية في إسطنبول الأوروبية، ويحمل نفس اسم المشروع السكني، ويعد أحد أهم الجسور الستة التي يتضمنها مشروع قناة إسطنبول.

مراد كوروم وزير البيئة والتخطيط العمراني نفى أن يكون مشروع سازليديره السكني جزءًا من مشروع قناة إسطنبول، أو أنه مخصص للمستثمرين العرب، مؤكدا أن كل ما يتم تداوله بشأن بيع مساكن هذا المشروع لمواطنين عرب أو غيرهم لا أساس له من الصحة، وأن المستفيد الوحيد من هذا المشروع هم المواطنون الأتراك الذين لا يملكون منازل خاصة بهم.

كوروم الذي اتهم المعارضة بالسعي لإثارة الجدل، وإيجاد حالة من البلبلة بين المواطنين، شدد على أنهم مستمرون في الوفاء بالتزاماتهم اتجاه مواطنيهم، وأنهم لا يلقون بالا لما يتم الترويج له من جانب المعارضة التي تحاول بث الفرقة بين أبناء المجتمع، مؤكدا أنهم في الحكومة يراهنون على وعي المواطنين الذين لن ينساقوا وراء مثل هذه الادعاءات الباطلة، مشيرا إلى أن مشروع قناة إسطنبول ليس على جدول أعمال الحكومة حاليا.

المثير للدهشة أن مشروع سازليديره الذي ينتقده حزب الشعب الجمهوري تقوم على تنفيذه إدارة الإسكان العامة المعروفة اختصارا باسم “توكي”، وهي إدارة تابعة لوزارة التخطيط، ومعروف أنها تتولى مهمة تنفيذ المشروعات السكنية للمحدودي والمتوسطي الدخل، إلى جانب تنفيذ المشروعات السكنية العاجلة للمناطق المتضررة من الظواهر الطبيعية كالزلازل، ولا علاقة لها من قريب أو بعيد بالمشروعات السكنية الفاخرة أو الاستثمارية، التي تتولاها شركات عقارية خاصة.

ورغم هذه الحقيقة التي يعلمها الجميع، فإن المعارضة تأبى التراجع عن ادعاءاتها، وتحاول بشتى السبل تشويه المشروع، والتأكيد على أنه مخصص للأثرياء العرب، الذين لديهم القدرة على دفع مبالغ ضخمة مقابل امتلاك منازل ذات إطلالة مميزة على المناطق البحرية بالمدينة، مما يحرم المواطنين الأتراك من الاستمتاع بهذه المناطق فضلا عن العيش بها نظرا إلى محدودية إمكانيات معظمهم المالية.

وزير النقل والبنية التحتية عبد القادر أورال سعى لتصحيح تصريحات كوروم بشأن مستقبل قناة إسطنبول، قائلا إنهم لم يتخلوا عن مشروع القناة، ولن يتراجعوا عن تنفيذه، خاصة أنه يهدف إلى تخفيف الضغط على مضيق البوسفور الذي يعاني ازدحاما شديدا، ويوفر الكثير من فرص العمل أمام المواطنين الأتراك.

أورال أوضح الأمر قائلا: “صحيح أن المشروع ليس على جدول أعمال الحكومة اليوم، لكن في الوقت المناسب، وبعد تأمين التمويل اللازم له سيتم تنفيذه بالتأكيد، لن نتراجع عن هذا الأمر لما فيه من مميزات ومصلحة للبلاد”.

يذكر أن أردوغان وضع حجر الأساس للقناة عام 2021، وهو المشروع الذي يربط البحر الأسود في الشمال ببحر مرمرة في الجنوب، بطول 45 كيلومترا، وعمق 25 مترا، وعرض نحو 400 متر، وتبدأ منطقة القناة من بحيرة كوتشوك شكمجة، إلى الغرب من إسطنبول، وتمتد شمالا إلى سد سازليديره ثم قرية شاملار، وصولا إلى البحر الأسود.

ويهدف المشروع إلى تحقيق عدة مكاسب اقتصادية ولوجستية واجتماعية ضخمة، خاصة أن تخطيطه يشمل إنشاء العديد من المرافق، منها 3 موانئ جديدة، ومنافذ للحاويات، ومنطقة ترفيهية، ومركز لوجستيات، وتجمعات سكنية فيها مراكز تجارية وترفيهية، إلى جانب العوائد التي سيتم جنيها من تعريفات السفن العابرة للقناة، التي تقدر قيمتها وفق دراسات للحكومة بحوالي 8 مليارات دولار سنويا،  مع ضمان تخفيف الضغط على مضيق البوسفور، الذي يعد من أكثر الممرات المائية ازدحاما على مستوى العالم، ومنع الحوادث التي تقع به بصورة مستمرة.

تقدر تكلفة مشروع القناة بما يقارب 15 مليار دولار، وهي تكلفة تقف حجر عثرة في طريق تنفيذه حتى الآن في ظل تزايد الأزمة الاقتصادية، إلى جانب نقص التمويل الخارجي نتيجة الانتقادات الحزبية والشعبية الواسعة التي وجهت إليه بسبب ادعاءات تأثيره البيئي المحتمل.

إذ تخشى أحزاب المعارضة من تأثير عمليات الحفر على تماسك التربة الطينية على جانبي القناة، وإحداث ضرر بالغ بمخزون المياه الجوفية، الأمر الذي من شأنه التسبب في انهيارات أرضية، وزيادة احتمال حدوث أنشطة زلزالية تهدد الحياة في المدينة، وهو ما دفعها إلى إطلاق حملة شعبية واسعة النطاق ضد المشروع الذي أكدت أنه يمثل خطرا حقيقيا على البيئة الطبيعية للمدينة التاريخية، والنظام البيئي البحري لها، كما أنه يعرض سكانها للخطر.

هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!