
سليمان سيفي أوغون - يني شفق
تمكّن فريدريش ميرتس، رئيس الوزراء في الحكومة الألمانية الجديدة، من تمرير مصدر تمويل يضمن تسليح ألمانيا، متجاوزًا العقبات القانونية القائمة التي تفرض انضباطًا صارمًا على الموازنة. ويمثل هذا الإجراء جزءًا من برنامج أوسع وأكثر شمولًا يتم بالتنسيق مع بريطانيا وفرنسا. ويُعد هذا التطور التعبير الأكثر تجسدًا حتى الآن للاستعدادات الفكرية التي جرت في الآونة الأخيرة بهدف إنشاء جيش أوروبي موحد. لكن ما هو أهم وأكثر إثارة للتفكير هو أن ألمانيا تحتل موقع القلب في هذا المشروع.
الحرب العالمية الثانية كانت تقوم على تحالف وثيق بين اليابان وإيطاليا وألمانيا. وقد امتلكت الدول الثلاث أشكالًا مختلفة من الأيديولوجيا العسكرية الصارمة. ففي إيطاليا، لم يكن لما يُعرف بالفاشية، وهو تعبير عن النزعة العسكرية، قاعدة جماهيرية قوية. وربما كانت الطبيعة المتوسطية للشعب الإيطالي ترفض هذه الأيديولوجيا الفظة، فلا تستسيغها، فكان يتم ضخ الفاشية من الأعلى إلى الأسفل دون أن تتمكن من ترسيخ جذورها، فكانت تتبخر.
أما في ألمانيا واليابان، فقد وجدت هذه الأيديولوجيا أرضًا خصبة واستجابة راسخة، وهو ما يعود أساسًا إلى الثقافة السائدة لدى هذين الشعبين. فقد أُقيمت عملية التحديث المتأخرة لدى الألمان واليابانيين منذ بداياتها على أسس عسكرية واضحة. وتُظهر أعمال مفكرين مثل نوربرت إلياس وبارينغتون مور الابن هذا الواقع بوضوح.
كان للنزعة العسكرية وظيفة تربط القيم الإقطاعية الزراعية بالرأسمالية الصناعية. ويمكن أن نُسمي هذا باختصار "التفاني القاتل والحتمي".
من حيث الجذور الثقافية، كان النبلاء أصحاب السيف المعروفون باسم "يونكرز" في ألمانيا، والـ"ساموراي" في اليابان، يشكّلون المرجعية الأخلاقية لهذا الالتزام. ومن الضروري هنا ألا نخلط بين هذا المفهوم و"أخلاق الواجب" الشهيرة لدى الفيلسوف الألماني كانط، حيث كان يرى في أخلاق الواجب أو في الالتزام بالواجب تجلّيًا عقلانيًا وفردانيًا ومستقلًا نابعًا من الضمير.
أما هنا، فالعقل يُستبعد، والعيون تُغمض، وتُقام روابط وجدانية مع أرواح الأجداد، ويتم الذهاب إلى القتل والموت في حالة من الخشوع.
إنها باختصار "أخلاق واجب" صوفية تتغذى من الوثنية والرجوع إلى الأسلاف.
أما المحركات المادية التي فعّلت النزعة العسكرية، فهي مرتبطة مباشرة بأزمات الرأسمالية. وقد كتبت كثيرًا عن هذه المسألة، ولكن سأذكّر بها بإيجاز:الرأسمالية كانت تمتص قوة العمل الجماعية في البداية من خلال فرض زيّ العمل (الأفرول)، ضمن نظام صارم يسمح بأقصى درجات الاستغلال.
لكن عندما تتخذ الأزمات طابعًا بنيويًا، كانت الرأسمالية تلجأ إلى النزعة العسكرية، فتخلع زيّ العمل، وتفرض الزي العسكري، وتدفع الناس إلى الحرب.
وكان الهدم ثم إعادة البناء من جديد هو أحد الأساليب المعروفة التي تلجأ إليها الرأسمالية لتجاوز أزماتها البنيوية.
تسببت الحرب العالمية الثانية في دمار يفوق التصوّر، وأودت بحياة ملايين البشر. وفي نهايتها، مُنيت ألمانيا واليابان بالهزيمة، وتأسس نظام عالمي جديد يتمحور حول القوة الأنغلو-أمريكية. في هذا النظام، عوقبت ألمانيا واليابان باعتبارهما من أكثر الشعوب ميلًا للنزعة العسكرية. وتمثلت العقوبة في نزع سلاح هاتين الدولتين المحاربتين وتحويلهما فعليًا إلى ما يشبه آلة عمل لا أكثر.
الولايات المتحدة، التي ظهرت باعتبارها السلطة الوحيدة بعد الحرب، ستتولى مهمة "إنقاذ العالم منهما". أما المعسكر الشيوعي، فلم يكن إلا بمثابة "أرنب عدّاء" يُبقي القدرات العسكرية الأمريكية في حالة يقظة وديناميكية.
وجود الاتحاد السوفييتي ودول أوروبا الشرقية التابعة له، خلق إحساسًا دائمًا بالتهديد، ما جعل بقاء أوروبا الغربية ضمن شبكة الأمن الأمريكية ضرورة لا غنى عنها.
أوروبا، وعلى رأسها ألمانيا، ستُنتج لأجل أمريكا، وأمريكا بدورها ستجذب هذه المنتجات إلى أراضيها عبر الدولار الذي تطبعه. أما نزع السلاح في أوروبا، فكان يهدف إلى تعظيم فائض الإنتاج.
من زاوية ما، كانت هذه العلاقة غير متكافئة بالنسبة لأوروبا. فألمانيا، بوصفها "الخاطئة" والملعونة، لم تكن تملك الحق في الاعتراض.
وفرنسا كانت الدولة الوحيدة التي رفعت صوتها في وجه العلاقة بين أوروبا والولايات المتحدة.
الجنرال ديغول كان يتمرد على هيمنة "اليورودولار"، ودفع ثمن ذلك في عام 1968. لكن من زاوية أخرى، يمكن القول إن هذا الوضع غير المتكافئ تحوّل لاحقًا إلى ميزة لأوروبا. فتشكّل الاتحاد الأوروبي كان نتيجة جدلية بين هذين الاتجاهين المتضادين.
وقد تبيّن بشكل خاص بعد حرب فيتنام أن الولايات المتحدة كانت تغوص في مستنقع الصراعات القذرة حول العالم. ومع كل تدخل جديد في منطقة نائية، كانت تُستنزف أكثر فأكثر. ولم يقتصر الأمر على ذلك، بل كانت نفقاتها العسكرية تتزايد يومًا بعد يوم لتبلغ حدودًا لا تُطاق.
أما أوروبا، فكانت بمنأى عن هذا العبء، حيث باتت قادرة على توجيه جميع مواردها نحو الإنتاج، بل وكانت تُعيد توزيع جزء كبير من هذه الموارد على شعوبها عبر قنوات ديمقراطية.
وفي ثمانينيات القرن الماضي، وصلت الموجة النيوليبرالية التي أطاحت بالنموذج الجماعي إلى أوروبا القارية أيضًا، لكنها وصلت مشوهة ومُخففة.
فعلى الرغم من موجة النيوليبرالية الأنغلوساكسونية، حافظت أوروبا القارية على أولوياتها الاجتماعية، ولو لم يكن بنفس قوة أزمنتها الذهبية.
وقد عُرف هذا النموذج باسم "رأسمالية نهر الراين" أو "نموذج الرفاه الأوروبي".
بينما كانت الولايات المتحدة تغرق في صراعات العالم المظلمة، نجحت أوروبا في الحفاظ على نقائها، متجهة بخطى ثابتة نحو التحول إلى قطب بديل يتميز بالسلمية والمدنية. وقد ساعدها في ذلك إرثها الثقافي العريق، وعمقها الفكري، وكونها ساحة تخلّت عن التقاليد العسكرية النابليونية، حيث أُلغيت الخدمة الإلزامية وتحرر الفرد من عبء الانضباط العسكري، ما أتاح لها تبني خيارات حضارية تعكس نموذجًا مختلفًا عن الهيمنة الأمريكية.
ومن يتذكّر تلك الحقبة، لا بد أن يستحضر الحملات الفكرية في التسعينيات التي كانت تدعو بكل قوة إلى انضمام تركيا إلى الاتحاد الأوروبي.
وكان الخطاب السائد آنذاك في هذه الحملات هو خطاب "اليسار الجديد"، الذي تخلّى عن أعبائه المعادية للإمبريالية. ورغم ذلك، فقد احتفظ هذا التيار بجرعة -وإن كانت ضعيفة– من معاداة أمريكا. وكان الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي بالنسبة إليهم هو الخلاص بعينه.
يتبع...
هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!
مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس