ترك برس

استعرض تقرير للسياسي التركي البارز تجربة مدينة غازي عنتاب بوصفها نموذجًا تركيًا ملهمًا يجمع بين التنمية الصناعية والنهضة الإنسانية، موضحا كيف تحوّلت هذه المدينة إلى منبر فكري عالمي عبر "منتدى غازي عنتاب الثاني" الذي ناقش مستقبل العالم الإسلامي في ظل تحولات النظام الدولي.

من خلال رصد الجهود الاقتصادية والاجتماعية للمدينة، يبرز الكاتب كيف أصبحت غازي عنتاب رمزًا للأمل والعمل المشترك، ومكانًا تُطرح فيه الأسئلة الكبرى حول الفاعلية الإسلامية، وغياب الكيان السياسي الجامع، ودور الأمة في عالم تتنازع عليه القوى الكبرى.

ويرى أقطاي أن ما يجري في غازي عنتاب يعكس ملامح رؤية حضارية تركية جديدة تسعى إلى الجمع بين الإنتاج والمعرفة، والهوية والمسؤولية في زمن يسوده الاضطراب والتشاؤم. وفيما يلي نص التقرير الذي نشرته صحيفة يني شفق:

في أوقات يسودها التشاؤم ويصبح فيها الأمل موردًا نادرًا، من المفيد النظر إلى تركيا من نافذة غازي عنتاب، كما قلنا في إحدى زياراتنا إلى هذه المدينة الجميلة قبل بضعة أعوام. فلطالما بدت لي نموذجًا باعثًا على الأمل وملهمًا للرؤية المستقبلية، بفضل ما تتميز به من إنتاج صناعي، واجتهاد وإنتاجية أهلها، ونهجها الإيجابي الفريد في معالجة المشكلات الاجتماعية.

لقد صاغت غازي عنتاب نموذجًا تنمويًا متكاملًا، يجمع بين قوة التنمية والتصنيع والأداء الاقتصادي الذي تبرز به في قلب جنوب شرق البلاد، وبين نهجها الإنساني الذي نجح في دمج التنوع الثقافي في المدينة. وعلى مدى أربعة عشر عامًا، تمكنت من دمج اللاجئين السوريين الذين استضافتهم، بشكل أكثر فعالية مقارنة بمناطق أخرى من البلاد، وبذلك أرست جسورًا تجارية وثقافية متينة مع العالم العربي.

لقد بدأت هذه الجسور تُشعر المدينة بإمكانية قوية للانفتاح والتوسع يوماً بعد يوم، خاصة بعد تحرير سوريا في 8 ديسمبر. فبعدها مباشرة، عاد ما يقارب 100 ألف سوري، مما خفف بعض الضغوط على المدينة، وساهم في جعل من تبقّى من السوريين قوة ديموغرافية أكثر فاعلية.

وبالتوازي مع مسيرة التنمية الصناعية والاجتماعية، شهدت المدينة نهضة مماثلة في مجالات العلوم والتكنولوجيا والثقافة. إذ تضم المدينة خمس جامعات، لبعضها فروع أو أنشطة مشتركة في المناطق الآمنة فيها داخل سوريا. فعلى سبيل المثال، تمتلك جامعة غازي عنتاب عدة كليات في مدينة أعزاز، والطلاب الذين يتخرجون منها اليوم مستعدون للمساهمة بفعالية في عملية إعادة إعمار سوريا على مختلف المستويات.

في الأسبوع الماضي، حاولنا من هذه المدينة أن ننظر إلى العالم الإسلامي كله، بل إلى العالم بأسره، لا إلى تركيا وحدها. فقد جمع "منتدى غازي عنتاب الثاني"، الذي تنظمه جامعة غازي عنتاب للعلوم والتكنولوجيا للسنة الثانية على التوالي، علماء ومفكرين وأكاديميين مسلمين من كل أنحاء العالم الإسلامي تحت عنوان: "إلى أين يتجه العالم الإسلامي؟"، وذلك في إطار البحث عن "رؤية من أجل مستقبل واعد". وخلال ورشات العمل وحلقات النقاش التي استمرت يومين، قدّم المشاركون توقعاتهم حول مستقبل العالم الإسلامي، وبالطبع تناولوا تحليلات مستفيضة للتاريخ والوضع الراهن.

ولا شك أن العالم الإسلامي ليس بمعزل عن العالم الأوسع، أي المجتمع الدولي وموازين القوى العالمية، فمساره المستقبلي يرتبط ارتباطاً وثيقاً بتطور النظام العالمي، الذي يبدو أنه يمر بأزمة حادة. فهل سينتظر صانعو السياسات باسم العالم الإسلامي انهيار هذا النظام العالمي لتحديد مستقبلهم؟ أم أن خيارات ونشاطات الفاعلين الذين يتحركون باسم العالم الإسلامي، أو مدى تأثيرهم، سيكون له دور في رسم ملامح مستقبل هذا النظام؟ إنه سؤال بالغ الصعوبة. فكيف لملياري مسلم، عاجزين عن اتخاذ موقف حازم أمام جرائم وغطرسة الكيان الإسرائيلي المجرم الذي لا يتجاوز عدد سكانه سبعة ملايين، أن يؤثروا في مستقبل النظام العالمي؟ بأيّ قوى فاعلة؟ وبأي مشاريع؟ وبأي روح وحافز؟

للأسف، كلما طرحنا مثل هذه الأسئلة، تظهر أمامنا الحقيقة المرة ذاتها وتصفع وجوهنا. وخلال منتدى غازي عنتاب، تكرر طرح الأسئلة نفسها مراراً وواجهتنا بقوة. ولكن مواجهة هذه الأسئلة لا تزيد من إحساسنا بالعجز، بل على العكس، تدفعنا إلى مضاعفة البحث عن الحلول، وإثراء الخطاب، وتحمل المسؤولية والمبادرة. لذلك، يجب ألا نقلل أبداً من شأن مثل هذه المنتديات والمؤتمرات والمناقشات.

وبالعودة إلى الحقيقة المُرّة مجدداً. فإن الجهات القادرة على تطبيق المقترحات التي تُطرح في مثل هذه المنتديات هي الدول. ولكن لا توجد اليوم في العالم أي دولة إسلامية يكون همّها الأساسي هو الإسلام أو تجعل منه أساس وجودها. بعبارة أخرى، ليس للمسلمين كيان سياسي واحد. إن الأولوية الأساسية للدول التي تُسمى دولاً إسلامية هي المصالح الوطنية، وبالتالي فإن سياساتها علمانية إلى أبعد الحدود. وفي هذه الحالة، من يمسك بدفة القيادة التي ستحدد مسار العالم الإسلامي؟ ومن سيقودها مستقبلاً؟ إن الخطاب حول مصير العالم الإسلامي، في ظل غياب فاعل مؤثر حالياً، لا يعدو كونه خطاباً يتصور السائلين أنفسهم في النهاية متفرجين سلبيين لا أكثر.

هل سيبدأ عهد الهيمنة الصينية مع انحسار الهيمنة الأمريكية؟ وإن حدث ذلك، فهل سيكون حال العالم الإسلامي الذي تتقاذفه الأمواج دون تدخل منا، أفضل تحت هيمنة الصين أم في ظل نظام عالمي متعدد الأقطاب؟ إن هذا بالطبع نهج لا يرى في العالم الإسلامي فاعلًا يصنع التاريخ. فهل سنكتفي باسم العالم الإسلامي، بمراقبة أزمات الهيمنة العالمية، والتقلبات بين أمريكا والصين أو روسيا؟

في الواقع، لقد برزت هذه الإشكاليات بوضوح خلال منتدى غازي عنتاب، ونوقشت بعمق. وكان هناك إجماع عام ومشاعر قلق مشتركة بشأن مدى رغبة الدول الإسلامية أو عدم رغبتها في تحويل العالم الإسلامي إلى فاعلٍ حقيقي. لكنّ لا شك أن العالم الإسلامي ليس مقتصرًا على الدول فقط. ففي الجلسة الافتتاحية للمنتدى التي حملت عنوان "هل فقد النظام العالمي شرعيته؟" والتي كنت أحد المتحدثين فيها، أشار الأستاذ محمد غورماز إلى أنّ مفهومي "العالم الإسلامي" بل وحتى "الحضارة الإسلامية" لم يُستخدما قط قبل القرن التاسع عشر. فـ "العالم الإسلامي" هو مجرد ملجأ مفاهيمي وملاذ فكري أنتجه المسلمون كرد فعل في مواجهة حالة التشرذم وما نتج عنها من عجز. أما المفهوم الأكثر أصالة وعمقاً فهو "الأمة"، وهو وعي مشترك يربط أي مسلم في أي مكان من العالم بكيان سياسي وعقائدي، حتى لو لم يتجسد هذا الوعي في دولة مسلمة واحدة.

إن رئيس جامعة غازي عنتاب للعلوم والتكنولوجيا، البروفيسور شهموس دمير، وكما أعرفه منذ زمن، شخص يتميّز بمعرفته العميقة بهذه القضايا واهتمامه البالغ بها، ويمتلك جانباً فكرياً قوياً، وشعورًا صادقًا بالمسؤولية تجاهها. وقد جعل هذا "الهم المشترك" بيننا أحد المحاور الأساسية لأنشطة الجامعة التي يرأسها. وجميع أعضاء هيئة التدريس في الجامعة ساهموا في المنتدى بتنظيم مثالي. كما أبدى كل من رئيسة بلدية المدينة فاطمة شاهين، ورئيس بلدية شاهين بيك، محمد طهماز أوغلو اهتمامًا كبيرًا بالضيوف المشاركين في المنتدى. ويُمثّل المسجد الوطنيّ الرائع، والمكتبة الوطنية، ومركز المؤتمرات والفنون، التي بنتها بلدية شاهين بيه، معيارًا لا يُضاهى في إدارة البلدية. فقد أصبح كل من هذه الصروح الثقافية إرثاً حضارياً عظيماً، يجسد روعة فنية تستحق الزيارة والتأمل.

وقد شارك في الندوة رئيس الشؤون الدينية البروفيسور صافي أرباغوش، ورئيس معهد الدراسات الإسلامية البروفيسور محمد غورماز، ورئيس اتحاد علماء المسلمين البروفيسور علي القره داغي، ورئيس منتدى الشرق وكاتب أحد أبرز كتب السيرة النبوية الحديثة "إلك بهار" (الربيع) وضّاح خنفر، وسفيرنا في سوريا البروفيسور برهان كور أوغلو، فضلًا عن عدد كبير من الشخصيات المعروفة، الذين أثروا النقاشات بعواصف فكرية عميقة حول القضايا المطروحة.

سنواصل تقييماتنا للمنتدى لاحقاً، وربما نربطها بمجريات "محكمة غزة" التي تُعقد في جامعة إسطنبول منذ ثلاثة أيام.

هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!