د. مصطفى الحاج حامد - خاص ترك برس
سؤال قد يبدو للوهلة الأولى بعيدًا عن الواقع الحالي لتركيا المستقر اقتصاديًا ومؤسساتيًا، وغير منسجم مع التجربة التركية ومسيرة الديمقراطية والنضوج السياسي والديمقراطي الذي وصله الناخب التركي، الذي يستطيع أن يختارالأنسب لبلاده ويقدم مصالحها واستقرارها وأمنها على بقية المطامع الشخصية والحزبية.
فهل لهذا السؤال أسبابه ودوافعه أم أنه شيء من الترف الذهني والبعد عن الواقع؟؟
يخطئ كل من يظن أن نظرية المؤامرة لم يعد لها دورها الذي يستطيع قلب الحقائق وتزوير الانجازات وتأليب الشارع بما يمتلكه من أواق ضاغطة وأبواق اعلاميه وأقلام مأجورة. ويجب أن لا ننسى هنا أن تركيا هي نتاج لتفتيت امبراطوية كبيرة كانت تتربع على ثلاث قارات ولأربعة قرون.
ويخطئ كثير من أخوتنا العرب خاصة عندما يختزلون العدالة والتنمية التركي بشخصيات الصف الأول من قياداته أمثال أردوغان وداود أوغلو وبولانت يلدريم وغيرهما... فليس كل من يصوت للعدالة والتنمية وحتى من يعمل ضمن صفوفه الآن يحمل الفكر والمنهج الذي يحمله ويؤمن به قادة هذا الحزب الأوائل.
اليوم تركيا تعيش فترة مختلفة تمامًا عما كانت تعيشه في الانتخابات الثلاثة الأخيرة التي عاشتها وربحها العدالة والتنمية بكل سهولة.
في الأنتخابات الأولى عام 2002 كانت تركية منهكة وخارجة للتو من حكومة إئتلافية فاشلة، وتنازع للسلطات وتدهو للعملة وتراجع للاقتصاد، وكانت تنشد الخلاص وتبحث عن المنقذ، فوجدت الوليد الجديد وهو العدالة والتنمية آنذاك، وبزعامة جديدة أيضا كانت تعيش المظلومية والأقصاء، وكوادر شابة نزيهة من أبناء الأناضول متحمسة للنجاح والعمل. فكان الانتخاب بدوافع عديدة، مما أكسب العدالة والتنمية نسبة من المقاعد لم ينلها فيما بعد.
وفي انتخابات 2007 كانت أيضا الظروف مواتية للعدالة والتنمية لسببين اثنين، الأول هو النجاح الاقتصادي والاداري وتطمين الآخر الذي كانت لديه فوبيا تجاه حكم الاسلاميين، والثاني محاولة العسكر التدخل بالشؤون السياسية احتجاجًا على ترشيح عبدالله جول لرئاسة الجمهورية فكانت ردة الفعل اللاإرادية ضد العسكر.
وفي الانتخابات ما قبل الأخيرة أي في عام 2011 كانت الظروف الاقليمية مواتية أيضا، من بدايات الربيع العربي المزهر، والسقوط المتلاحق لزعامات عربية في البدايات من هذا الربيع الذي لم يكتمل وأصبح صيفا حارقا على كثير من البلدان فيما بعد،إضافة لاستمرار النجاح الاقتصادي – رغم تباطؤه - والاستقرار الأمني والسياسي والاقتصادي ومشروع السلام المجتمعي ومشاريع أردوغان التي إطلق عليها المشاريع الجنونية في حينها.
أما الانتخابات الأخيرة في حزيران المنصرم فقد جرت في ظروف مغايرة لكل سابقاتها ، فالاقتصاد في شبه ركود واتهامات الفساد طالت وزراء بحكومة العدالة والتنمية والترهل والغرور أصاب الكوادر، أما العسكر فلم يعد لهم تأثير وتدخل في السياسة حيث لم يعد هناك مجال للمظلومية بل على العكس من ذلك هناك أتهام للعدالة والتنمية بأنه هو اليوم قد أخذ الدور الذي كان يشكو منه سابقا. وكأن هذه السلبيات لم تكفي فزادها قرار الحزب نفسه بمنع كثير من الخبرات والكفاءات من الترشح بحجة ومثالية عدم الترشح لأكثر من ثلاث مرات.
أيضا الوضع الاقليمي اليوم ليس لصالح العدالة والتنمية حيث تعيش تركيا في خلاف مع كل جيرانها – بغض النظر عن سبب هذا الخلاف – من ايران الى مصر مرورا بسوريا وليبيا وحتى تونس وبعض دول الخليج.
كل هذه الظروف مجتمعة وبعض الهموم المحلية والمجتمعية والنفسية كانت وراء فشل الحزب في الحصول على الفوز الذي يؤهله للاستمرار في مشاريعه الكبيرة والانتقال لنظام حكم رئاسي جديد لم يحظى بتأييد الشارع والناخب التركي.
اليوم تركيا تعيش وضعًا جديدًا الخروج منه ليس بالأمر السهل وعدم قدرة العدالة والتنمية على تشكيل حكومة ائتلافية حتى هذا اليوم أكبر دليل على صعوبة المرحلة الحالية والقادمة.
فالعدالة والتنمية الذي اعتاد على الحكم بمفرده منذ ولادته، ولم يعتد على مشاركة الحكم مع غيره، اليوم فقد القدرة على تشكل حكومة بمفرده ولا يريد تسليم رأس الخيط لغيره خوفا من فقدان مصادر القوة والتأثير.
لذلك يسعى اليوم للبقاء بالحكم وقيادة البلاد لانتخابات مبكرة بحكومة أقلية برئاسته.
وحزب الشعب الجمهوري المتلهف للحكم بعد بقاءه بالمعارضة لأكثر من أثنى عشر سنة، لايريد المشاركة بحكومة انتخابات مبكرة، بل يصر على حكومة ائتلافية لأربع سنوات تقوم بترميم – حسب زعمه - إجراءات العدالة والتنمية خلال حكمه في الفترات الثلاث الماضية.
أما حزب الحركة القومية المتصلب في قرارته منذ اليوم الأول لعشية الانتخابات فقد أغلق كل الابواب أمام مشاركته بأي حكومة ائتلافية ويضع شروطا تعجيزية أمام العدالة والتنمية لقبوله المشاركة معه. ومع مرور الأيام تزداد حدة الكلام والنقد بينهما وضد رئيس الجمهورية الذي هو خط أحمر للعدالة والتنمية مما يجعل تشكيل الحكومة أشبه بزواج بالإكراه هذا إن حدث هذا الزواج.
وأما حزب الشعوب الديمقراطية الذي كان دخوله للبرلمان وتجاوزة حد العشرة بالمئة هو القشة التي قصمت ظهر البعير وسببت كل هذا التأزم الحالي، هو الآخر دخل الانتخابات بمقولة أننا لن نسمح لرئيس الجمهورية أن يصبح رئيس للبلاد بنظام رئاسي جديد، استطاع تحقيق هذه المقولة والفوز بأصوات غالبية المناطق ذات الغالبية الكردية التي احازت للعاطفة القومية بدل الانجازات الاقتصادية والحقوقية والمدنية خلال حكم العدالة والتنمية .هو اليوم خارج تشكيل الحكومة ومستثنى من التشكيلات والاحتمالات.
أمام رئيس الوزارء أحمد داوود أغلو أيام معدودات لتشكيل الحكومة أو أن يضطر رئيس الجمهورية لأخذ قرار أعادة الانتخابات وهذا يستدعي تشكيل حكومة من كل الأحزاب وقد رفض حزب الحركة القومية هذه الفكرة وأعلن بأنه لن يشارك بهذه الحكومة . ناهيك عن صعوبة تشكيل هذه الحكومة في ظل هذه التأزمات بين رئيس الجمهورية وكل أحزاب المعارضة.
الحل الوحيد الذي يريده داوود أغلو اليوم هو الحصول على دعم من الحركة القومية لحكومة أقلية تقود البلاد لانتخابات مبكرة خلال شهر تشرين الثاني القادم كأقصى حد. وهذا ما رفضه حزب الشعب الجمهوري وكذلك الحركة القومية.
وغير هذ الحل كلها حلول أحلاها مر ولا يبقى سوى حل المجازفة بالذهاب لانتخابات مبكرة. فلأول مرة تعيش تركيا حالة من الأنسداد البرلماني والحكومي في السنين العشر الأخيرة.
في ظل تصاعد وتيرة الارهاب و تجدد القتال بين حزب العمال الكردستاني واعلان الحرب على تنظيم داعش، وسناريوهات تشكيل الدولة الكردية وتقسيم سورية، وزيادة حدة الانتقادات وبشكل مباشر لشخص رئيس الجمهورية رجب طيب أردوغان من قبل كثير من السياسيين والكتاب والمحللين، والاصطفاف القومي والتشنج السياسي يبقى السؤال الأهم هو كيف ستكون نتائج الانتخابات القادمة...؟
قبل مباريات كرة القدم يقول المدربون إن حظوظهم بالفوز هي خمسين إلى خمسين بالمئة، لأن الواحد والخمسين تعني الفوز والحصول على الكأس.
لكن مع الأسف هذا لا ينطبق على نتائج الانتخابات البرلمانية.
بعد الانتخابات التركية الماضية تساءلت هل هي كبوة أم نكبة؟
وعلما يبدو أن الجواب على هذا التساؤل سيكون في الانتخابات القادمة التي تستعد لها تركيا مجبرة منذ اليوم، وهذا يتوقف على عوامل كثيرة من أهمها مدى استفادة العدالة والتنمية من هذه التجربة والأزمة التي تعيشها تركيا.
فهل يحسن تحويل المحنة الى منحة؟ وتكون هذه كبوة لا نكبة؟
أم تكون نكبة تأتي على الأخضر واليابس لا سمح الله؟
هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!
مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس