د. سمير صالحة - خاص ترك برس
التاريخ والأرشيف يقولان إن آخر المواجهات التركية الروسية بين عامي 1917 و1918 انتهت بانتصار العثمانيين وتسريع سقوط حكم القياصرة ودخول موسكو في مرحلة الانغلاق بهدف ترتيب شؤون بيتها الداخلي.
التاريخ والأرشيف يقولان أيضا إن التهديد والوعيد ليست اللغة التي يقبل بها الأتراك والروس في علاقاتهم السياسية وإن قرارات الانفتاح والتعاون التي انطلقت قبل 15 عاما مع وصول الرئيسين رجب طيب أردوغان وفلاديمير بوتين إلى السلطة كانت ناجحة ومثمرة وساهمت في إزالة حالة التوتر شبه الدائم ورفع مستوى التبادل التجاري إلى حوالي 40 مليار دولار على أمل إيصاله إلى 100 مليار في العام 2023.
في العلاقة مع روسيا تعرف أنقرة تماما أنه حكم عليها بمجاورة دولة عظمى لن يكون من السهل محاكاتها لأن أقل هفوة سياسية أو عسكرية يمكن أن تتسبب في إشعال مواجهة مباشرة نجح الطرفان في معرفة كيفية تلافيها حتى الأمس القريب. لكن قيادات العدالة والتنمية تعرف أيضا أن الدب الروسي استفاق من ثباته الطويل جائعا غاضبا جشعا يتركها أمام اختبار جديد في علاقاتها مع روسيا.
أصوات في العاصمة التركية تردد أن صواريح الباتريوت الغربية تعود مجددا إلى مناطق الحدود التركية السورية وتركيا تحتاجها هذه المرة ليس لمنع التهديد السوري كما كانت مهمتها في السابق بل للاستعداد لاستخدامها في أية مواجهة عسكرية مع روسيا التي تواصل حشد قواتها وتخزين أسلحتها في شمال سوريا. لكنها ترى أيضا أن واشنطن تتحدث عن أولوية أخرى هي التمسك بتوجيه الدعوات لأنقرة وموسكو على السواء في الحيطة والحذر وعدم ارتكاب الخطأ القاتل وكأنها تريد الوقوف على الحياد.
هناك وجهة نظر ثالثة في تركيا تقول إن المسألة باتت تتجاور القيادات السياسية في البلدين إلى إصرار "الدولة العميقة" وأطراف إقليمية ثالثة يهمها إشعال هذه المواجهة في إطار حساباتها المحلية والإقليمية والدولية.
كل المؤشرات والدلائل السياسية والعسكرية حول احتمال اندلاع الحرب التركية الروسية تتقدم على غيرها من سيناريوهات التهدئة والهدنة بين البلدين.
متفائلون قالوا إن تركيا لم ترد هذه المرة على حادثة اختراق حدودها في 29 الشهر المنصرم ولم تسقط المقاتلة الروسية التي أقدمت على ذلك كما فعلت في 24 تشرين الثاني/ نوفمبر، وإن التأزم بين أنقرة وموسكو وتبادل الاتهامات، والأسلوب الانفعالي سيتراجع في النهاية لصالح الدبلوماسية والسياسة وهذا ما يؤكده مندوب روسيا الدائم لدى الاتحاد الأوروبي فلاديمير شيخوف نفسه بقوله إنّ تركيا وروسيا لا يوجد بينهما عداء وإنّ روسيا تعتبر تركيا من الدّول الصديقة وتربطهما شراكات واسعة لأن العلاقات التركية الروسية لا تنحصر في مجال الطاقة فحسب، بل هناك العديد من المجالات الأخرى التي تتعامل فيها الدّولتان مع بعضهما البعض.
لكن بعض المتشائمين يرددون أن روسيا سترد بقساوة وأن أنقرة لا رغبة حقيقية عندها في إنهاء الأزمة والدليل تفريطها بفرصة فتح الأجواء التركية أمام مقاتلة روسية للقيام بجولات استطلاعية في الأجواء التركية التزاما ببنود اتفاقية "السماء المفتوحة" الدولية، التي أُبرمت عام 1994، وعدم قبول تركيا الاقتراحات الروسية بتفقد المناطق الحدودية في البحر الأسود وخطوط الانتشار العسكري التركي في مناطق الحدود التركية السورية. ومسارعة موسكو للحديث عن فشل ما قيل حول تحرك أذري يقوده الرئيس إلهام علييف نفسه باتجاه التوسط بين أنقرة وموسكو لإنهاء حالة التوتر والقطيعة القائمة، وتغيير عواصم عربية وخليجية لمواقفها حيال السياسات الروسية الإقليمية وهي اليوم تنسق وتتعاون مع موسكو وتتمسك بتحسين العلاقات التجارية والسياسية معها والتنسيق المشترك في حل ملف الأزمة السورية لحماية مصالحها.
في حادثة التوتر التركي الروسي الثانية وبعد إعلان أنقرة عن انتهاكات روسية جديدة لأجوائها تحرك الأطلسي ليكون في قلب المواجهة المباشرة مع روسيا لكن الرئيس الروسي بوتين لم يتأخر في تحذير الحلف نفسه في ضرورة الوقوف على الحياد في هذه المواجهة بين أنقرة وموسكو لأنها لا تعني الأطلسي. إما أن روسيا تتجاهل مضمون اتفاقيات الشراكة التركية الأطلسية وأن الأراضي التركية هي أراض أطلسية أيضا وتحاول عزل تركيا عن حلفائها، وإما أنها تختبر رغبة دول الحلف في دخول المواجهات العسكرية للدفاع عن تركيا خصوصا وأن بوتين يقول إن الانتشار الجديد لقوات الأطلسي يشكل تهديدا مباشرا للأمن القومي الروسي.
الإدارة الأمريكية وكما يبدو المشهد من أنقرة اليوم لم تعد تهتم كثيرا:
- بما تقوله تركيا حول مخاطر الأبعاد السياسية والأمنية للعلاقة المتينة بين أمريكا وحزب الاتحاد الديمقراطي الكردي وتجاهل واشنطن لمشروع موسكو الذي يتقدم على الأرض باتجاه فتح الأبواب أمام تمدد هذا الحزب نحو أبعد نقطة جغرافية في شمال غرب سوريا لتكون مقدمة لإعلان الكيان الكردي المستقل.
- ومصيرومستقبل المنطقة الآمنة التي تتمسك تركيا بها كحل أولي يفتح الطريق أمام الحل الحاسم لمسار الأزمة السورية.
- أوشرط ضرورة إزاحة نظام الأسد في أية عملية مساومة سياسية تجري ببعد إقليمي أو دولي.
- أو مخاطر تمدد قوات النظام السوري ومجموعات حزب الله في الساحل السوري لتوسيع رقعة انتشار الدويلة العلوية التي ستكون مجاورة للإدارة الكردية المستقلة هناك بعد إنجاز عملية إفراغ المنطقة من القرى التركمانية وترحيلها إلى تركيا.
قيادات في المعارضة السورية طالبت واشنطن بعد فشل لقاء جنيف الثالث بالضغط على موسكو لتغيير مواقفها حيال مسار الأزمة السورية. يبدو أن هذه القيادات نسيت أن الإدارة الأمريكية تضغط بشكل أو بآخر على موسكو اليوم من أجل إشراكها في خطة شمال سوريا على الجبهتين الشرقية والغربية وعدم تجاهل حصتها في القضية لا بل هي باتت تنسق مباشرة مع صالح مسلم بهذا الخصوص بعيدا عن مبررات التنسيق السابقة التي كانت تتم في إطار الحرب على داعش ودور أكراد سوريا فيها.
البعض في أنقرة يردد أنه بقدر ما تعتبر موسكو دولة قوية فإن تركيا هي أيضا قوية عسكريا واقتصاديا وأن تركيا لا تحتاج إلى قرار مسبق من حلف الأطلسي للدخول مع روسيا في أية مواجهة عسكرية تفرضها عليها موسكو وتريدها كثيرا في هذه الآونة وإن قرار تحرك الأطلسي هو قرار يعود له أولا وأخيرا في دعم تركيا والوقوف إلى جانبها أم لا. لكن الأطلسي يعرف أن مواجهة تركية روسية تنتشر وتتسع ستحمل معها مخاطر اندلاع حرب إقليمية نووية فهل هو على استعداد للدخول في مواجهة من هذا النوع أم لا؟
روسيا اليوم لها اليد الطولى في توتير علاقات تركيا بإيران والعراق ولبنان وتسليح حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي وتحريض حزب العمال الكردستاني ومحاولة الضغط على لاعبين إقليميين ودوليين لعدم الاقتراب من أنقرة مثل إسرائيل ومصر وجمهوريات تركية حتى، لكن تركيا أيضا قادرة على استهداف العمق الروسي اقتصاديا وأمنيا واستراتيجيا عبر بناء منظومة علاقات واسعة مع الاتحاد الأوروبي والعالم العربي وتحديدا السعودية وقطر وخصوم أو منافسين كثر لروسيا في العالم.
هل يمكن لأنقرة أن تثق حتى النهاية بالموقف الغربي خصوصا وأن الرئيس التركي أردوغان حذر روسيا من تحمل العواقب إذا استمرت في مثل هذه الانتهاكات للحقوق السيادية لتركيا؟
المشكلة بالنسبة للأتراك هي اليوم أبعد من إجابة دول حلف شمال الأطلسي عن سؤال وقوفها جانبهم في حال تحول التوتر التركي الروسي إلى مواجهة ساخنة، بل معرفة إذا ما كانت هذه العواصم الغربية ستتخلى عن أنقرة وتنحاز إلى روسيا تاركة تركيا لوحدها في هذه المواجهات لصالح حماية علاقاتها مع روسيا وإيران؟
هناك قلق تركي حقيقي من أفكار تناقش في المحافل الغربية حول أن مواجهة عسكرية تركية روسية تعني بالنسبة للغرب فرصة إضعاف البلدين وإخراجهما من لعبة التوازنات الإقليمية والدولية في منطقة الشرق الأوسط خصوصا بعد التفاهم الغربي النووي مع إيران واستعدادا طهران للعب الدور الذي تريده بعض العواصم الغربية على ضوء مواجهة من هذا النوع.
أنقرة هي تحاول اليوم تذكير المجتمع الدولي بدوره ومهامه والتعهدات التي قدمها للشعب السوري وثورته ضد النظام فحاولت موسكو ضربها وتفتيتها تحت شعار الحرب على الإرهاب ومقولة إن الحل السياسي والحوار مع النظام هو الطريق الوحيد أمام الثورة والثوار: مئات الغارات الروسية في الأيام الأخيرة ضد من تصنفهم موسكو بالجماعات الإرهابية فما هي حصة داعش منها مثلا؟ ما علاقة تغيير الديمغرافيا السورية التي تنفذها موسكو في مناطق الشمال بدعم النظام السوري والوقوف إلى جانبه؟ قرارات مؤتمر لندن في زيادة وتنظيم الدعم المالي للشعب السوري مسألة إنسانية أخلاقية مهمة لكن ما الذي ستوفره لسوريا الجديدة في غياب الدعم السياسي الذي ينفذ القرارات الدولية والأممية المتخذة بشان الحل في سوريا؟
ضغوطات أميركية تمارس على المعارضة لمشاركتها في جنيف 3 بناء على تفاهم اميركي روسي مسبق تتحرك موسكو لتعطيل الاجتماعات قبل أن تنطلق عبر عمليات عسكرية في مناطق حلب لتسجيل انتصارات عسكرية تعزز مواقع وفد النظام هناك فكيف سترد واشنطن على المناورة الروسية والتزامات لافروف أمام كيري بالتنسيق المشترك من أجل دفع مسيرة الحل السياسي في سوريا؟
أنقرة ترى أن تفاهم لافروف كيري هو العقبة أمام الحل في سوريا وأنه بقدر ما يحق لموسكو إطلاق التوصيفات والتصنيفات للمنظمات السورية المعارضة ومهاجمة مواقعها وقوافلها، على الطرف الآخر أيضا توفير دعم قوات المعارضة السورية والوقوف العسكري المباشر إلى جانبها لقطع الطريق على التفوق العسكري الميداني الروسي في الحرب التي تشن باسم حماية النظام في سوريا.
أنقرة لن تكتفي بعد الآن بإبلاغ روسيا الالتزام بمسألة محاربة "داعش"، والكف عن مهاجمة وإفراغ القرى التركمانية في سوريا. وأن تركيا لا يمكن لها الاكتفاء بوصف الهجمات التي تستهدف التركمان بأنها تُظهِر مدى دموية النظام السوري ووحشيته وحده وأن الرد التركي لن يكون أبعد من موضوع مسارعة إدارة الطوارئ والكوارث التركية بالتعاون مع الهلال الأحمر التركي لإرسال المساعدات الإنسانية لتركمان ريف اللاذقية وأن شل التحرك التركي العسكري في سوريا من قبل موسكو غير مقبول. لا بد أن تكون هناك استراتيجية عسكرية أمنية تركية عاجلة لوقف استهداف تحالف قوات النظام السوري المدعومة بغطاء جوي روسي، ومجموعات مقاتلة من عناصر حزب الله والوحدات الإيرانية لشمال غرب سوريا تمهيدا لربط هذا الجزء بقوات صالح مسلم التي تنتظر إشارة التحرك الروسي باتجاه عبور غرب الفرات.
قناعات جديدة تنتشر في تركيا حول أن لا خيار آخر أمام أنقرة إذا ما كانت قوات التحالف الرباعي بقيادة روسيا متمسكة بجر تركيا إلى المصيدة السورية طالما أنها تعمل على حرمانها من جميع ما تدعو إليه وتطالب به وتحذر منه في الملف السوري. خصوصا عبر تسهيل دخول قوات الاتحاد الديمقراطي الكردي إلى غرب الفرات. استبدال داعش التي أدت مهمتها هناك بتسهيل دخول وحدات النظام السوري إلى جبل التركمان وإفشال مشروع المنطقة الآمنة.
أنقرة لا تريد أن تقع بين فكي كماشة داعش و"بي يي دي" المتعاونة مع النظام في مشروع إعادة بناء وتقاسم شمال غرب سوريا في إطار مخطط تقسيم البلاد بأكملها. إذا ما كانت موسكو قد التزمت بآخر بنود اتفاقية فيينا ولقاءات الرياض الأخيرة وتريد أن تكون جزءا من الحل الدولي فلماذا حركت جيوشها وسفنها وشجعت النظام على التصعيد على جبهة شمال سوريا بهذا الشكل؟
روسيا تقول إنه لا حل في سوريا لا تتبناه وتعتمده هي، وواشنطن لا تقول أي شيء سوى تكرار مواقف قديمة قد تكون غايتها منح روسيا الوقت والفرص التي تريدها هناك فكيف ترضى أنقرة أن تبقى بين المطرقة الروسية والسندان الأمريكي؟
قبل سنوات كانت أنقرة تعترض الطائرات الروسية وتطالب بهبوطها للتفتيش بحجة نقل السلاح إلى النظام في سوريا، هذه المرة روسيا بجنودها وطائراتها وسفنها في سوريا تقاتل نيابة عن النظام.
ومع ذلك فرسالة السلم هي الأهم هل ستتنبه أنقرة وموسكو إلى حجم الخطورة المحدقة بهما عند أول رصاصة مباشرة تطلق على الجبهات وما يمكن أن يقدماه من فرص وخدمات للبعض أم أن عقارب الساعة لن تعود إلى الوراء وكل ما في الأمر هو انتظار ساعة الصفر في الانفجار؟
هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!
مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس