بلال سلايمة - خاص ترك برس
بعد تسليط الضوء على أهم سمات البنية الفكرية التي يقوم عليها تنظيم غولن في المقال السابق، أحاول في هذه المقال باختصار رسم الملامح العامة لعمل التنظيم في بناء وتوسيع بنيته التنظيمية وتجنيد عناصره وكذلك في سعيه لرسم صورة زاهية تخفي ورائها مآرب التنظيم، وذلك من خلال التركيز على محورية التعليم في الإطار العملياتي للتنظيم. فالتنظيم الذي لطالما قدم نفسه للأتراك والعالم من خلال خدماته التعليمية، استخدم هذه الخدمات أيضًا للدعاية العامة والتجنيد وكمصدرٍ للتمويل وواجهةٍ لنشاطاته أيضًا.
قوة التنظيم الناعمة
شكل التعليم أحد أهم أدوات تنظيم غولن الدعائية منذ بداية تشكل التنظيم في سبعينات القرن الماضي، فـ"بيوت النور" التي تسعى لإنشاء "جيل ذهبي" يقوم على الأخلاق التي تستند على الدين. كانت أهم اللافتات الجذابة التي سعى غولن لمخاطبة المجتمع التركي من خالها ورسم صورة لتنظيم يسعى لنشر التعليم وتقديم خدماتٍ للطلبة المحتاجين ومنحٍ طلابية للطلاب المميزين في معاهد ومدارس الجماعة الخاصة التي تكاثرت وازدهرت مع الزمن.
التعليم لم يكن وسيلة لمخاطبة الرأي العام التركي وحسب، بل ركز التنظيم أيضاً على رسالته التعليمية عالمياً وقدم نفسه كشبكة من المؤسسات الخيرية التعليمية التي تسعى لنشر العلم في شتى أرجاء العالم، ولتقديم فهمٍ للإسلام الذي يقف إلى جانب القيم المتحضرة في محاربة التطرف والإرهاب. لكن محاولة رسم هذه الصورة الناصعة أخفت خلفها مساع وأهداف أخرى محليًا وعالميًا على السواء.
أولى خطوات التجنيد
ركز تنظيم غولن منذ البدايات على الطلاب وأولاهم اهتمامًا كأحد أهم روافد التنظيم بشريًا، وركز جهده تحديدًا على طلاب المرحلة المتوسطة التي يتشكل فيها عادةً شخصية الطالب وكذا توجهاته المهنية. فعمل التنظيم على استقطابهم لبيوته التنظيمية من بوابة مساعدتهم في دروس التقوية، في الوقت الذي يسعى فيه أعضاء التنظيم الأكبر سناً لتوجيه هؤلاء الطلاب للثانويات العسكرية والشرطية أو لدراسة الحقوق، مع الاستمرار في التغذية الفكرية من خلال قراءة كتب والاستماع لمحاضرات فتح الله غولن زعيم التنظيم الأوحد. مرحلة التوجيه والتلقين هذه تستمر لسنوات المرحلة الثانوية والجامعية، التي يسكن الطلاب فيها ضمن بيوت التنظيم. لينتقل بعدها الطلاب في المرحلة الجامعية إلى الدور الوظيفي من خلال الإشراف ومتابعة طلاب المرحلة المتوسطة القادمين حديثًا لبيوت التنظيم بحثًا عن دروس التقوية، أو من خلال المهام التي يوكلها لهم المسئول "الأخ الأكبر" في التنظيم. مع نهاية المرحلة الجامعية يتم زرع عناصر التنظيم في مؤسسات الدولة المختلفة ويستمر التواصل الخيطي معهم أو يوجهون للعمل ضمن مؤسسات التنظيم في تركيا وخارجها.
والملاحظ أن التنظيم استفاد من خصائص منظومة التعليم في تركيا التي تساهم في رسم توجه الطالب وظيفيًا من مرحلة مبكرة، وكذا من ضعفها بدفع الطلاب نحو البحث عن دروس تقوية رديفة في بيوت التنظيم أو معاهده. كما أن مدارس التنظيم الخاصة المعروفة بأقساطها المرتفعة تعتبر موجهة للطبقة العليا ونخبة المجتمع، تحديداً المنتشر منها في عواصم الدول خارج تركيا، ما ساعد التنظيم على استقطاب أبناء السفراء والوزراء وطبقة النخبة، الأمر الذي ساهم في فتح علاقات مع ذويهم. أما الأذكياء من أبناء الطبقة الفقيرة الذين استهدفهم التنظيم بمنحه الطلابية وسكناته فقد أصبحوا كالخاتم في إصبع مسئوليهم الذين لطالما استغلوا حاجة الطلاب وذويهم ليلعبوا لحقاً على وتر امتنانهم للتنظيم لتعزيز ولائهم وطاعتهم.
مصدر تمويل
لا يقتصر استخدام التنظيم لخدماته التعليمية على الجانب الدعائي والتجنيدي فحسب، بل تعتبر المعاهد والمدارس الخاصة التي يمتلكها التنظيم في تركيا والعالم أحد أهم موارده المادية، فعلى سبيل المثال يناهز عدد معاهد التنظيم التعليمية في تركيا (والتي أغلقت بعيد المحاولة الانقلابية) الألف، ما يمثل قرابة 13% من عدد المعاهد التعليمية الخاصة في عموم تركيا، ومن المعلوم أنها أنشأت غالباً من خلال التبرعات في حين تعتبر أقساطها غالية نسبياً. كما يعتقد أن للتنظيم عددًا مشابهًا من المدراس خارج تركيا. وتشكل مدراس التنظيم المنتشرة في الولايات المتحدة تحديدًا مصدرًا مهمًا للدخل أيضًا، فالتنظيم لديه ما يقارب 140 مدرسة في 25 ولاية أمريكية (46 في تكساس، 30 في أوهايو، 11 في فلوريدا، وفي غيرها من الولايات) تعمل تحت نظام التعاقد أو ما يعرف باسم نظام المدرسة المستقلة أو Charter School، وتحصل هذه المدارس على الدعم الحكومي من قبل سلطات الولاية مقابل تقديم خدمات طلابية في مناطق معينة. وعلى الرغم من عدم توافر إحصائية دقيقة حول حجم الدخل المادي الذي توفره المؤسسات التعليمية للتنظيم، لكن بعض المراقبين يقدرونه بمليارات الدولارت سنوياً. ولعل أهمية هذا الأمر بالنسبة للتنظيم هو ما دفعه لإعلان الحرب على الحكومة في صيف 2013 بعد تصريحها بنيّتها إعادة هيكلة النظام التعليمي وإلغاء معاهد التقوية.
واجهة للتنظيم وأعضائه
لا تقتصر أهمية المدارس والمعاهد التعليمية للتنظيم على الدخل المادي المباشر فحسب بل إن هذه المؤسسات أيضاً توفر فرصة عمل ومصدر دخل للغالبية من أعضاء التنظيم الذين يعلمون ضمن بنى التنظيم الداخلية، وكان لافتًا في هذا الصدد أن الغالبية العظمى من "أئمة التنظيم" في المحافظات التركية والذين يمثلون رأس الهرم التنظيمي في محافظاتهم والذين تم الكشف عنهم بعيد الدعاوى التي قام عليها التنظيم في 15 و27 من كانون الأول/ ديسمبر 2013 من العاملين في هذه المؤسسات، وهذا الأمر ينطبق أيضاً على بنية التنظيم في بقية دول العالم. كما أن هذه اللافتات التعليمية تسهل نشاطات التنظيم المختلفة، وكان الملاحظ في هذا الصدد أن معظم تأشيرات الدخول التي حصل عليها أعضاء التنظيم في سفرهم للويلات المتحدة للقاء زعيم التنظيم فتح الله غولن المقيم في بنسلفانيا حصلوا عليها باسم مدارس التنظيم في أمريكا.
لم تقف نشاطات التنظيم التعليمية ضمن حدود تركيا كما أشرت أعلاه، بل تعددتها لدول العالم المختلفة، وكان اللافت في هذا الصدد الانتشار الكبير الذي حظيت به مدارس التنظيم في دول آسيا الوسطى تحديدًا في الفترة التي تلت انهيار الاتحاد السوفييتي، وقدم التنظيم من خلالها نموذجًا للإسلام الحداثي المتسامح مع الغرب، ما أهله لتلقي مدح الباحثين ومراكز الدراسات الغربية كما أشار تقرير مؤسسة رند الأمريكية "الإسلام الديمقراطي المدني" الصادر عام 2003 عن المركز المعروف. في المقابل فإن مؤسسات التنظيم التعليمية في تلك الجغرافيا كانت عرضة للتضييق بل وحتى الإغلاق في دول مثل روسيا، وأخذت الأصوات تتحدث ولو همساً عن علاقة هذه اللافتات التعليمية بوكالة المخابرات المركزية الأمريكية.
لا ينبغي التغافل هنا عن الخدمة التي قدمها الطلاب لبعض الطلبة المحتاجين، لكن ينبغي التأكيد أيضًا أن خدمات التنظيم لم تكن مجانيةً في يوم من الأيام، كما أنها لم تكن خدمةً لأجل الخدمة أو نشر العالم بحد ذاته، بل كانت اللبنة الأولى في التجنيد ومصدر التمويل لأعمال التنظيم والواجهة التي يخفي خلفها نشاطاته ويستخدمها لتبرير انتشاره، ولعل في الاعترافات والتصريحات التي أدلى بها أعضاء التنظيم السابقين بعيد محاولة الانقلاب الفاشلة متسعٌ لمن أراد الاستزادة. أما السلطات التركية التي وجهت ضربات لمؤسسات التنظيم التعليمية في محاولة لتجفيف مصادره المادية والبشرية بعيد فشل المحاولة الانقلابية، تقف اليوم أمام استحقاقٍ لملأ الفراغ الذي ستتركه هذه المؤسسات.
هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!
مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس