د. وائل مرزا - خاص ترك برس
يرحم الله أهل الألباب، وأيامًا قال فيها الشاعر العربي: "إن اللبيب من الإشارة يفهم". لم يكن الهدف في الجزء الأول من هذا المقال استخدام أحداث حلب للحكم على إسلامية السلطة التركية من عدمها، وإنما تَمثل الهدف، تحديدًا، في محاولة فتح ملف التفكير بموضوع "الأسلمة"، بمعنى البحث عن معانيه ودلالاته الحقيقية، وملابسات تنزيله في واقع الناس، لدى العرب بشكلٍ عام، وإسلامييهم تحديدًا، من خلال استخدام واقعٍ محدد يتعلق بمثالٍ يهتمون به كثيرًا.
فمثلُ هذه المداخل، البعيدة عن التجريد و(التنظير)، تُوفرُ مقاربةً أسهلَ وأوضح لتحديد المشكلات ومواضيع البحث، وطرح الأسئلة بخصوصها. وهي أقدرُ على إضفاء جرعةٍ من القوة النفسية والفكرية للاعتراف بالحقائق العيانية التي تفرض نفسها على واقع الناس.
لهذا، وحرصًا على تأكيد الفكرة وأهميتها، نحاول مرةً أخرى.
الإسلاميون مشغولون بـ "أسلمة" الحياة، ويرون، بالتالي، أن مقتضياتها تشمل كل فعاليات الحياة البشرية، ومنها، تأكيدًا، السياسة، داخليةً كانت أو خارجية. هذه مقدمةٌ أولى.
وثمة شرائح طاغية منهم، مع كثيرٍ من العرب، يرون في السلطة التركية نموذجًا على الالتزام بـ "مفهوم" الأسلمة، بل وحرصًا على العمل بمقتضياتها. هذا فضلًا عن رغبةٍ نفسيةٍ بأن يشيع منهج تلك السلطة في عملية الأسلمة في كل مكانٍ آخر، هذه مقدمةٌ ثانية.
لا تنفي السلطة التركية نفسها صفة "الإسلامية" عن هويتها، ولا تخفيها في خطابها الإعلامي والسياسي إلى درجةٍ كبيرة. هذه مقدمةٌ ثالثة.
حسب الفهم الشائع جدًا لصفة "الإسلامية" ومتطلباتها العملية، بين الإسلاميين العرب، والسوريين حصرًا، كان يجب على تركيا أن تتصرف، سياسيًا وعسكريًا، بخصوص المسألة السورية بشكلٍ محدد، خاصةً في الأشهر الأخيرة، وتحديدًا فيما يتعلق بعلاقة تركيا مع الفصائل والمعارضة السورية من جانب، ومع كل من روسيا وإيران (وإسرائيل)، من جانبٍ آخر. هذه مقدمةٌ رابعة، من التعسف إنكارُها. وتفاصيل الحديث فيها معروفةٌ ومشهورة لاحاجة للتفصيل فيها (باختصار شديد وفي أقل الأحوال: مجابهة روسيا وإيران سياسيًا وعسكريًا إن اقتضى الأمر، وتزويد الفصائل بكل أنواع الأسلحة وخاصة مضادات الطائرات، وبالتأكيد عدم التعاون لخروج حلب من المعادلة).
لم تتصرف الحكومة التركية في كل هذه المسائل وفق (كاتالوك) الإسلاميين العرب، ولا وفق أجندتهم وفَهمهم ورؤيتهم، من قريبٍ أو بعيد، في تنزيلها لمقتضيات الإسلامية على سياساتها الخارجية المتعلقة بالمسألة السورية. هذه مقدمةٌ خامسة.
بحدٍ أدنى من المنطق، ووفق المقدمات الخمس أعلاه، ثمة احتمالان لتفسير المفارقة بالنسبة للإسلاميين العرب والسوريين. فإما أن صفة الإسلامية لم تؤخذ بالاعتبار، في قريبٍ أو بعيد، من قبل الأتراك في تعاملهم مع الوضع السوري. وهذا يعني أن تلك الصفة ليست موجودةً أصلاً لديهم، أو، في أقل الأحوال، أن هناك (انتقائيةً) في السياسات المتعلقة بها، يُطلقُ عليها البعض أسماءَ أخرى أكثر سلبيةً...
أما الاحتمال الثاني، الذي نؤكد عليه، فيتمثل في أن هناك فرقًا شاسعًا في فهم كل مايتعلق بمفاهيم "الأسلمة" و"الإسلامية" بين الطرفين. مايزيد الأمر خلطًا هو غياب التفريق بين تنزيل تلك المفاهيم في سياقين: سياق المظاهر الخارجية والشعائر من جهة، حيث يكون التشابه طبيعيًا وسهلًا، وسياق القضايا الكبرى المتعلقة بالقضايا الاستراتيجية السياسية العالمية المتعلقة بمصائر الدول والشعوب، حيث تختلف الرؤية والحسابات كليًا.
لا يُنكر الحكام الأتراك كثيرًا مما يتعلق بإسلاميتهم، كما ذكرنا، لكن فهمهم لتنزيل مقضيات الإسلام في الحياة، يحمل درجاتٍ من المراجعة والمرونة والتفاعل الهائل مع متغيرات الواقع. وهذا، تحديدًا، ما يُنتج ممارسات وقرارات تجعل الإسلاميين العرب والسوريين يُصابون بالدوار. وللدقة في هذا المقام، لا يعني هذا التحليل إضفاء صوابيةٍ مطلقة على نتائج المراجعة والمرونة والتفاعل، فهذا ليس من طبائع الأمور، وإنما يؤكد الاختلاف الجذري في منهج التفكير بمفاهيم "الأسلمة" والإسلامية" بين الطرفين.
وبدلًا من التركيز على جوهر القضية هذا، وخروجًا من مأزقهم النفسي والفكري والعملي، يَجهدُ إسلاميو العرب والسوريين في محاولة تبرير قرارت الأتراك بالحديث عما قدمته تركيا للسوريين في كل مجال، وهذا حقٌ لا يُنكر، وفي التذكير بما تواجهه من صعوبات وتحديات، مما يعرفه كل إنسان.
مفرق القضية يكمن في كون تجربة حلب، في سياقها التركي والعالمي، فرصةً أخرى للإسلاميين العرب والسوريين لإعادة التفكير بكل ماله علاقة بصفات "الأسلمة" و"الإسلامية"، جذريًا وبشكلٍ شمولي.
هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!
مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس