د. سمير صالحة - خاص ترك برس
أبلغت أنقرة "حليفها" الأمريكي أكثر من مرة أنها ستتوجه نحو مدينة منبج السورية مطالبة بتنفيذ تعهد سحب الوحدات التابعة لحزب الاتحاد الديمقراطي من هناك استكمالا لخطة درع الفرات والمنطقة الآمنة، لكن الذي جرى كان العكس تماما في اليومين الأخيرين.
كررت القيادة التركية للمرة العاشرة إن وحداتها وبعد إنجاز عملية القضاء على داعش في الباب ستتوجه بالتنسيق مع قوات المعارضة السورية إلى منبج، وإنها على استعداد بعد ذلك للتعاون مع قوات التحالف الدولي وروسيا لطرد داعش من مدينة الرقة ثم تسليمهما لسكانهم العرب. وأنقرة جددت رفضها للدخول في أية مساومات أو تفاهمات مع المجموعات التابعة لحزب الاتحاد الديقراطي الذي ترى فيه تنظيما إرهابيا يعكس الصورة الأخرى لحزب العمال الكردستاني. بل على العكس من ذلك هي أعلنت أنها ستحارب هذه المجموعات إذا ما قررت البقاء غرب نهر الفرات مخلة بالتعهدات الأمريكية لتركيا بشأن انسحابها إلى الضفة الشرقية من النهر. فما الذي فعلته واشنطن حيال المطالب والمواقف التركية؟
تساؤلنا حول بناء "سد الوقاية" العسكري الأمريكي والعلم المرفوع على مداخل المدينة والتعزيزات العسكرية والسلاح الثقيل إلى وحدات صالح مسلم وكيف أنه لم يلفت انتباه النظام السوري وحلفائه المحليين والإقليميين جاءت الإجابة عليه بمثابة الصدمة. الحملات المنظمة تحت شعار "الاحتلال التركي" لمدينة الباب كان الرد عليها في منبج قبل يومين محملين تركيا مسؤولية إيصال الأمور إلى هذه النقطة من التشابك!
خطوة الإدارة الأمريكية الجديدة هذه في الدخول العسكري المباشر إلى جانب الوحدات الكردية في المدينة تعني أن المباحثات التركية الأمريكية التي استمرت لأكثر من أسبوعين على أعلى المستويات السياسية والأمنية والعسكرية لم تصل إلى نتيجة أولا وأن ترامب وفريق عمله لن يبتعدا كثيرا عن سياسة أوباما في نظرته وحاجته إلى صالح مسلم كحليف وشريك وحيد متبقي في سوريا وتمسكه به حتى ولو كان الثمن الدخول في مواجهة مباشرة مع أنقرة ثانيا، وأن كل ما كانت الإدارة الأمريكية الجديدة فعله هو كسب المزيد من الوقت والفرص على الأرض ثالثا.
المشهد الميداني يكاد يقول:
إن واشنطن وموسكو تفاهمتا سرا على منع التقدم التركي نحو منبج لأنه يضرب مصالحهما وحساباتهما ونفوذهما في الملف السوري،
وإن الانتصار التركي في الباب كان هزيمة للاعبين محليين وإقليميين كثر في سوريا وإنه لا بد من تعويض هذه الخسارة في معركة منبج،
وإن فشل سيناريو تحريك أكراد تركيا للعصيان وإشعال الفوضى في جنوب شرق تركيا رغم كل الجهود الغربية التي بذلت لدفع هذه العواصم لتكون أكثر تشددا حيال ما تقوله تركيا في شمال سوريا خصوصا لناحية عرقلة التمدد الكردي وتعطيل مشروع الكيان المستقل هناك.
المفاجأة بالنسبة لأنقرة كانت ربما سرعة المساومات الميدانية بين دمشق وحلفائها من جهة وصالح مسلم وشركائه من جهة اخرى باتجاه تبادل الخدمات على الطريق الذي يربط الباب بمنبج وتعطيل تقدم الوحدات التركية عبر الانسحابات الكردية لصالح قوات النظام وإلزام الأتراك بخيار المواجهة العسكرية، مما يعني إصابة ثلاثة عصافير بحجر واحدة أضعاف التحالف التركي مع الجيش الحر وضرب التنسيق التركي الروسي وإرضاء أمريكا من خلال عرقلة الخطة التركية وتوفير الحماية لحليفها الكردي.
خيارات تركيا شبه محدودة بعد الآن، إما أن تقرع باب موسكو مرة أخرى وتدخل في تفاهمات جديدة حول مسار عمليتي منبج والرقة كما حدث في عملية الباب دون أي دور أمريكي مباشر. وإما أن تقدم لواشنطن الكثير من التنازلات في الملف السوري خصوصا في موضوع المناطق الآمنة الذي يريده ترامب مقابل سحب الوحدات الكردية إلى شرق الفرات لتكمل تركيا خطتها في درع الفرات. أو أن تمضي تركيا حتى النهاية وراء هدفها المعلن قبول مغامرة الدخول إلى منبج مهما كان الثمن باهظا عليها وعلى حلفائها السوريين.
تصلب تركيا في الدخول إلى مدينة الباب دفع الكثيرين بين شركاء وخصوم لتوحيد مواقفهم ضدها لذلك كان ردهم في منبج ربما. ومشكلة تركيا التي ترفع شعار تطهير شمال سوريا من التنظيمات الإرهابية أنها لا تحارب تنظيم داعش هذه المرة بل تنظيما إرهابيا يدعمه ويموله شريكها الأمريكي الذي تجاهل ما تردده منذ عامين حول رفضها استخدام تنظيم إرهابي لضرب آخر.
داعش هو الذي كان يقدم الخدمات للنظام السوري والوحدات الكردية في أكثر من مكان لتعطيل أي تقدم لتركيا وحلفائها في سوريا. الآن لم يعد هناك داعش فلا بد من التفاهمات المباشرة بين النظام وصالح مسلم الذي يصفه حلفاء بشار الأسد بالشريحة الأساسية من المجتمع والدولة السورية. موسكو وطهران وواشنطن لن تعترض على تفاهم من هذا النوع لا بل هي جاهزة للتدخل المباشر إذا ما كان هناك ضرورة لتنفيذه طالما أنه يضيق الخناق على تركيا في الملف السوري. فكيف ستضع أنقرة خططها وتحدد خياراتها وبدائلها؟
لقاء الرئيس التركي والروسي المرتقب هذا الأسبوع قد يساعد أنقرة أكثر فأكثر على تحديد خطة الرد على الرد. لكننا نعرف جيدا أن البعض في تركيا يدفع ثمن إفشال المحاولة الانقلابية في منتصف تموز/ يوليو المنصرم وعدم إعطاء بعض العواصم الغربية ما تريد وهي تبحث عن خيارات جديدة للوصول إلى أهدافها مرة باستهداف الاقتصاد التركي ومرة أخرى بتجربة حظها في منتصف نيسان/ أبريل المقبل مع الاستفتاء على التعديلات الدستورية علها تأخذ ما تريده.
أنقرة تعرف بعد الآن أن ما قاله ترامب حول المناطق الآمنة كان هدفه إعلان منطقة آمنة كردية في شرق الفرات تكون منبج هي خط الفصل فيها مع المنطقة الآمنة التي تريدها تركيا في غرب النهر. لكن أنقرة تعرف أكثر من ذلك أن واشنطن تريد تجهيز هذه المنطقة لتكون مركز الحكم الذاتي الكردي ومشروع الانفصال وتقسيم سوريا كما فعلت في العراق عام 2003. موسكو تقول إنها تدعم الفدراليات لكنها تعرف أن ما يعد له في سوريا هو كونفدراليات ذاهبة نحو التقسيم.
عدم حصول موسكو وواشنطن على ما تريدان في اجتماعات جنيف 4 وعودة المتفاوضين دون نتائج مشجعة أشعل جبهات القتال السورية مجددا والأولوية ستعطى لمعركة كسر العظم في منبج حيث لا وجود لداعش هناك هذه المرة يوحد مصالح المتنازعين.
القرار التركي في التقدم نحو منبج تحد كبير وحقيقي في سياسة تركيا السورية وهو أبعد من أن يكون عملية اختبار للعلاقات بين أنقرة والعواصم الإقليمية والدولية المعنية بل مقدمة لبناء تحالفات جديدة قد تكون أنقرة أول المتضررين منها إذا ما أخطأت الحسابات.
تسليم منبج لقوات بشار الأسد كان سيفرح موسكو التي أرادت إيصال حليفها المحلي إلى قلب خارطة الشمال مجددا لكن ما جرى حتى الآن يقول إن واشنطن هي التي تحقق ما تريد حيث قلبت المعادلات لصالحها بعد صمت طويل وذلك عبر الورقة الكردية. درس العراق لم نستفد منه كثيرا على ما يبدو، وها هي القوات الأمريكية مجددا في قلب المنطقة لتفرح أقلية كردية في سوريا تستعرض عضلاتها بالسلاح والمال تحت العلم الأمريكي.
هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!
مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس