مخلص برزق - ترك برس
الكل يرقب حلول نيسان هنا في تركيا، فبمجيئه يصعد مؤشر الحرارة شيئاً فشيئاً ليحلّ دفء الربيع المنعش محل برد الشتاء المزعج. بمجيئه تتحول إسطنبول إلى حديقة كبيرة ذات بهجة عظيمة تسرّ الناظرين المقيمين منهم والسائحين.
كثيرة هي البلاد التي يصعب التمييز فيها بين فصول العام حيث يتقلص الأمر فيها إلى فصلين اثنين فقط هما الشتاء والصيف، بل إن بعضها يقتصر على فصل واحد طويل، وهو ما يضفي على تلك البلاد شيء من الكآبة والملل ينعكس على طباع سكانها ونفسياتهم. ويتعدى ذلك لترى آثاره على المكونات البيئية من نباتٍ وحيوان وتربة وهواء.. أما هنا في إسطنبول حيث نمضي تغريبة جديدة في رحابها بعيداً عن "حواري" القدس، فقد كان الصراع على أشدِّه بين بقايا الشتاء وطلائع الربيع خلال شهر مارس "آذار" المنصرم، تبدَّى في تقلبات جويّة عجيبة أزالت الثقة بأي شمسٍ طالعة أو سحابٍ متراكم، ولا غرابة بعدها أن يطلع عليك من يذكرك بمَثَلٍ مشهور متداول هنا بألا تركن إلى أجواء إسطنبول أونسائها أوثمن صرف ليرتها!!
ذلك المخاض الجويّ البيئي العسر ولد لنا ربيعاً زاهياً زاهراً لا أجمل منه ولا أروع، أورقت معه الأشجار وتستَّرت بغطاء أخضر جميل، وبدأت معه زهور اللالا (التوليب) الساحرة بزخرفة ميادين إسطنبول وشوارعها وحاراتها ومساجدها وحدائقها.. وهناك في حديقة "اميرجان" و "جلهانة" انسابت أنهارٌ منها بألوان وأشكال تبهر العقول والأبصار معلنة بدء مهرجان الربيع في بلد تتداخل كل مكونات الطبيعة فيه بحاراً وأنهاراً وجبالاً وودياناً مع مكونات الإرث الحضاري للعثمانيين، لتجعله بحقّ قبلة ومحجةً للسياح من كل أنحاء الأرض. إنه أمر يفرض على الأتراك عبئاً كبيراً في المحافظة على المكتسبات التي نقلت بلادهم من مصافّ الدول المتخلفة البائسة إلى مصاف الدول المتحضرة الراقية، فالكثير منهم ما يزال يتندر على زمن ليس بالبعيد كانت إسطنبول فيه تعاني من شحّ شديدٍ بماء الشرب، وانقطاعٍ متواصل للكهرباء، ومشاكل دائمة للصرف الصحي، مع انعدام للأمن والأمان، وشبه انهيار للاقتصاد..
زمن لم يكن الناس فيه يفكرون بزراعة "اللالا" لأنهم ببساطة لم يكونوا يستطيعون توفير الماء العذب لبيوتهم وشربهم فضلاً عن أن يوفروه لزراعتهم، وباتوا اليوم ينقلونه عبر أنابيب فوق البحر لجزيرة قبرص! السرّ وراء ذلك يكمن في تغيير جذري واكب فوز رجب طيب أردوغان برئاسة بلدية إسطنبول الكبرى عام 1994، ولا ينكر دور البلديات التي أدارها حزب العدالة والتنمية في إحداث نهضة مدنية عمرانية شاملة إلا جاحدٌ، حسبنا في ذلك تأمُّل إحصائية معبرة جداً تشير إلى أنه قد تمت زراعة مئة وثلاثين ألف شجرة في إسطنبول عام 2015، ومئة وثمانين ألف أخرى في عام 2016، ومثلها مُدرج للزراعة على خطة هذا العام، كل ذلك مرفقاً بشبكة تمديدات مائية لسقايتها. كما تم في العام المنصرم زراعة أكثر من ستين مليون زهرة "لالا" (توليب)، منها خمسة وعشرين مليوناً في إسطنبول وحدها، والأرقام في اطّراد سنوياً، ولم يأت ذلك من فراغ، فالقوم هنا مثقلون بتزاحم مناسبات قصّ أشرطة افتتاح المشاريع الحيوية الضخمة في طول البلاد وعرضها، فيما الكثير من بلادنا تتكاثر فيها حجارة الأساس كالفطر لمشاريع وهمية كاذبة لا ترى النور أبداً!
خلال حقبة من الزمن وجد الشعب التركي نفسه صاحب القرار والتأثير في مصير البلاد، ولمس بنفسه كيف تمكن من المحافظة على أولئك الذين صنعوا نهضته ليتواصل حكمهم للبلاد منذ العام 2002 حتى اليوم. وفي مرحلة عصيبة جداً كثرت فيها التكهنات وتعالت فيها المراهنات على سقوطٍ مدوٍ لحزب العدالة والتنمية أعطى الأوفياء والعقلاء أصواتهم له في الانتخابات المبكرة التي جرت في نوفمبر 2015 ما أدى إلى إقالة عثرة الحزب وتأهيله للرجوع بقوة، ثم إنه حظي بالتفاف شعبي غير مسبوق إبان محاولة الانقلاب الفاشلة في 15 تموز 2016 والتي كادت تعصف بكل المنجزات التي حققها الحزب، ومعه تركيا كلها التي كانت ستغرق في مصير أسود قاتم لولا عناية الله ولطفه.
عبر أزاهير التوليب المنتشرة على جانبي الطرقات وفي مراكز الاقتراع، سوف يتوجه 53 مليون ناخب تركي للإدلاء بأصواتهم في استفتاء تاريخي يرقبه العالم أجمع، كشفت معه أوروبا وجهها القبيح وتوجهها العنصري البغيض، وتقيأ علمانيو العرب وليبراليوهم أحقادهم وتعالى صراخهم وزعيقهم، فيما خفقت معه قلوب المستظلين بظلال الأمن والأمان ممّن قهرتهم الحروب وتشردوا بعيداً عن الأوطان، فاستظلوا بما وفره لهم أردوغان ما يشعر الإنسان بأنه إنسان!
استفتاء يُذكِّر الشعب بأنه صاحب القرار، وأنّ بيده حماية مستقبله من الأخطار. إنه اليوم على موعد جديد ليدلي بصوته قائلاً لا (Hayir) لدستور عام 1982م الذي أفرزه انقلاب كنعان ايفرين العسكري، وذلك بكتابة نعم (EVET) في الاستفتاء لصالح نظامٍ رئاسي جديد يفتح صفحة جديدة من صفحات المجد في تركيا تتفتح معها الملايين الملايين من أزهار التوليب الرقيقة الناعمة التي كانت في يوم من الأيام رمزاً من رموز الإمبراطورية العثمانية العليّة في أزهى عصور مجدها التليد.
هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!
مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس