سمير صالحة - العربي الجديد
"احتراما للدستور العراقي، وأمانة للقسم المؤدّى بالدفاع عنه، وبعد وصول كل الجهود التي بذلت باتجاه حل الخلافات بين أبناء الوطن الواحد بالحوار السياسي إلى طريق مسدود، وعلى الرغم من تحذيرات عديدة موجهة إلى القيادة السياسية في إقليم كردستان العراق بأن قرار الاستفتاء المعلن في الشمال، وضم مدينة كركوك إليه، على الرغم من عدم تسوية وضعها القانوني، هو مخالف للدستور والقوانين.
وبعد تجاهل كل الدعوات الإقليمية والدولية حول خطورة استغلال الظروف السياسية والأمنية في العراق، للإقدام على خطوة انفصالية من هذا النوع تتعارض مع رغبة الشعب العراقي، قرّرت الحكومة العراقية، بالتنسيق مع رئاسة الجمهورية وقيادة الجيش العراقي، إعلان حالة الطوارئ في إقليم كردستان شمال العراق، وأعطت الحكومة العراقية أوامرها للقوات المسلحة والقوات الرديفة التي تنسق معها التحرّك باتجاه التدخل العسكري المباشر والفوري، لمنع هذا الخطر المحدق بالبلاد، كما قرّرت الحكومة التقدم ببلاغٍ إلى المدّعي العام في العراق باتخاذ التدابير والإجراءات القانونية الفورية بحق كل من شجع وحرّض على خرق الدستور، وتعريض وحدة تراب العراق العزيز للخطر".
حلل النص الوارد أعلاه، والمتعلق بالاستعدادات الجارية باتجاه إجراء استفتاء شعبي في 25 سبتمبر/ أيلول المقبل في شمال العراق، لناحية قانونيته وصلاحية إعلانه، وفرص تطبيقه معتمدا على مواد الدستور العراقي، ومبادئ القانون الدولي العام وأسسه، مع العلم أن المقصود بالقوى الرديفة هو وحدات الحشد الشعبي.
هذا سيناريو سؤال على طلبة مادة القانون الدولي في كلية الحقوق لا أكثر. لكن المقلق هو ما الذي ستقوله وتفعله أربيل إذا ما فاجأنا بيان من هذا النوع يحمل الرقم واحد، موقعا باسم القيادة السياسية العراقية؟ يقول رئيس إقليم كردستان، مسعود البرزاني، إنهم سيفاوضون على الاستقلال مع بغداد، والقوى الأجنبية بعد الاستفتاء، وإنه على استعداد لتهدئة المخاوف الأمنية للعراق وتركيا وإيران، لكن تأجيل الاستقلال سيؤدي، في حقيقة الأمر، إلى مزيدٍ من عدم الاستقرار.
أي منطق قانوني ودستوري هو التفاوض على فرض حالة أمر واقع جديد، باستغلال الأمر الواقع ؟ ثم لماذا إدراج القوى الخارجية في التفاوض؟
مشروع انفصال الشمال عن عراقه يتقدّم برغبةٍ دوليةٍ غير معلنة، على الرغم من المعارضة الإقليمية، وذلك إرضاء لأكراده. أكراد العراق هم الذين يريدون أن يرضوا أنفسهم أم إن هناك من يريد إرضاءهم.
هو استغلال للأجواء السياسية والأمنية التي يعيشها العراق، للتحرّك بشكل منفرد نحو استفتاء شكلي، يحقق حلم بعضهم، وينهي حلم آخرين، فهل هو انتصار للمشروع الكردي في المنطقة، أم انتصار لبعضهم في إيصال المنطقة إلى إشعال أزمة هذا المشروع؟
يقترب المشهد العراقي من المشهد السوري أيضا.
تركيا وايران تواجهان الأزمة نفسها إذا ما حصل أي تأزم عراقي يتحول إلى اقتتال أهلي.
من لا يريد أن يفوت فرصة انفجار عراقي - عرقي من هذا النوع يكمل المشهد السوري.
لم يحترب العراقيون فيما بينهم. مرة كانت الحرب الأميركية على العراقيين، ومرة أخرى حرب العراقيين على "داعش"، لكن النتيجة التي نكاد نصل إليها هي فتح الطريق أمام الحرب الأهلية في العراق، خدمة للمشروع الانفصالي الكردي في العراق وسورية، ثم في تركيا وإيران، فأين المشكلة؟
القتال في سورية سوري سوري، لكن المنتصر الأول هو زعيم حزب الاتحاد الديمقراطي، (الكردي)، صالح مسلم، وأعوانه. هو من يحارب "داعش" لإخراجها من مناطق يريدها تحت سيطرته سياسيا وعسكريا ودستوريا.
لا يختلف موقف أربيل كثيرا عن ذلك، لن نغادر المناطق التي ندخلها، وكركوك هي أصلا لنا، لكن مسألة استردادها طالت أكثر من اللزوم.
لا يدفع التاريخ الثمن أبدا. نحن الذين نتحمل الأعباء بين رابحين وخاسرين، بين تقلبات المشهد لصالحنا أو ضدنا. الدور هو لأكراد المنطقة، لينتقموا لأنفسهم، ليس من غدر صفحات التاريخ، أو من صنع لهم هذا التاريخ قبل قرن، بل ممن فرض عليهم التهميش والتجاهل والإنكار، وأوصلهم إلى خياراتٍ راديكالية من هذا النوع.
الاعتقاد السائد هو أنه من حقّ كل جماعة تجمعها لغة واحدة، أو ثقافة واحدة، أو فضاء جغرافي واحد، المطالبة بالاستقلال، استناداً إلى مبدأ حق تقرير المصير، لكن الحقيقة أن القانون الدولي يدعم وحدة الدول، وأن محاولة استغلال هذا المبدأ وتوظيفه بشكل ضيق سيحمل معه نزاعات واضطرابات تفتيتية كثيرة تطاول مباشرة مفهوم السيادة ووحدة الأراضي وإشعال النزاعات العرقية، والتسبب في أزمات اجتماعية اقتصادية سياسية أمنية لا تنتهي.
لا حاجة للعودة إلى ما يقوله القانون الدولي، أو القرارات الأممية، أو اجتهادات المحاكم المتخصصة حول حق تقرير المصير ومطلب الانفصال، وشرعية تفتيت الدول، فأربيل لن تصغي لأحد.
جملة مستعارة طبعا.. لماذا هو حلال على بعضهم وحرام عليها؟ قوة القانون هي قانون القوة في يومنا هذا، وعلى من يعترض أن يقدّم عروضا أكثر إغراء من مشروع تفتيت دول المنطقة.
يتمحور السؤال حول وقوف إقليم كردستان العراق أمام امتحان تاريخي، هو كيف سيحدّد سكان الإقليم الكردي مصيرهم، البقاء داخل عراق فيدرالي أو إعلان دولة كردية مستقلة. لكن لا أحد يريد أن يتذكّر مشروعية وقانونية حق إجراء هذا الاستفتاء بهذه الطريقة؟ تقول الأنباء إن نماذج للعملة الكردية المزمع اعتمادها للتداول في محافظات الإقليم جاهزة.
القنبلة الكردية جاهزة للانفجار أو ربما هي انفجرت من دون أن نشعر.
كلنا ساهم في صناعتها تاريخيا وسياسيا واجتماعيا، وعلينا أن نتحمل وبال شظاياها التي ستطاول خطط التهميش والتعريب والتتريك والأيرنة.
تقول عقلانية البرزاني وفريق عمله إن الفرصة السانحة اليوم لن تعوّض قد لا يريدون الحرب مع بغداد، لكنهم سيبحثون عمن يقنعها بقبول ما يريدونه، فمن سيتطوّع للقيام بالمهمة؟ الملفت هنا هو ليس إعلان إيران وتركيا والولايات المتحدة معارضتها الاستفتاء، بل التحفظات التي تبديها بغداد، وكأنها تقول إنها تتفهم ما تقوله وتريده أربيل، لكنها تريد إرجاء ذلك إلى وقت لاحق.
مرة أخرى، سيكون الاستفتاء ورقة ضغط بيد أربيل، لكن الذي سيساومون عليه ليس انتزاع مزيد من الأموال والحصص في الموازنة والنفط والتمدّد السياسي والدبلوماسي، بل ما بعد فشل بغداد في ترتيب شؤون البيت الداخلي، واستردادها ثقة المكونات العراقية، وتحميلها مسؤولية إيصال الأمور إلى خط اللارجعة الكردي.
التوقيت والظروف مؤاتية كما ردد البرزاني نفسه، وهي قد لا تسنح بهذا الشكل مرة أخرى، لكنه في جميع الأحوال ملزم بالاختيار بين انشغال العالم بمسائل إقليمية أخرى، مثل محاربة "داعش" والملف السوري وقضايا اللجوء والتطورات المتلاحقة في الخليج واليمن، وبين حسابات الوضع الاقتصادي المتدهور والمشكلات السياسية والأمنية المتزايدة التي ستجر الإقليم إلى أزماتٍ أعمق وأكثر تشعبا، خصوصا وأن أصواتا قيادية في حزبه بدأت تحذر بقية القوى السياسية الكردية المعارضة بأن تنظيم الاستفتاء لا يحتاج إلى تفعيل برلمان كردستان، وأنه سيجري شاؤوا أم أبوا، ومن لا يأخذ مكانه في القطار الذي يستعد لمغادرة المحطة سيتحمل عواقب مواقفه.
تعرف الدولة الناشئة أنها تحتاج الغطاء القانوني والاعتراف الدولي، فمن سيوفرهما لها؟ إذا ما كانت أربيل تريد أن تقلد نموذج الدولة القبرصية التركية، فللتذكير فقط الظروف والمعطيات والتوازنات هي التي دفعت إلى الإعلان عن هذه الدولة عام 1983، وتركيا هي التي تحتضنها، فمن الذي سيحتضن الدولة الكردية في شمال العراق؟
نتيجة الاستفتاء معروفة مسبقا، غالبية ساحقة ستقف مع الانفصال.
وقد بدأ الإقليم عملياً يتحرّك على هذا الأساس. من يرحب ويشجع على الاستفتاء هو من يريد الاستثمار سياسيا وأمنيا واقتصاديا في مشروعٍ من هذا النوع، ويريد أن يفك عزلته، ويخفف الضغوط الإقليمية والدولية ضده، ويبعد الأنظار عما يفعله، ويخطط له، هو في المنطقة، إسرائيل مثلا.
يلوح البرزاني ربما بالكيان الكردي المستقل، لكنه يريد أن يكرسه في إطار كونفدرالية موجودة فعليا على الأرض، يريدها أن تكون دستورية هذه المرة، فهل تمنح المادة 140 من الدستور أربيل الحق في ضم كركوك إلى الاستفتاء، وتحديد مصيرها الجغرافي بهذا الشكل؟ وهل الاستفتاء المطروح يعني أربيل وحدها في هذه الأجواء التي يعيشها العراق ودول المنطقة؟ وكيف تستقبل قيادات إقليم كردستان العراق مواقف الأمم المتحدة في رفض موضوع الإشراف على الاستفتاء أو المشاركة فيه حتى؟
وهل التغاضي أو السكوت عن قرار رفع علم الإقليم على المؤسسات الرسمية في كركوك يعكس حقيقة موقف بغداد، في عجزها عن تعطيل قرار الاستفتاء في الإقليم ومنعه أمام حالة الفراغ والتخبط والتشرذم الأمني والسياسي الحاصل في المشهد العراقي؟
أدّى "داعش" مهمته في تفتيت سورية، وتفعيل خطة الفيدرالية التي يتمسك بها حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي، فهل يقوم في العراق أيضا بالمهمة الموكلة إليها بتسريع تغيير شكل النظام الدستوري والسياسي هناك، من فيدرالي إلى كونفيدرالي مطاط يمهد للتقسيم.
تطبيق حقّ المصير في يومنا هذا مرتبط مباشرة بنتيجة مواجهات حروب المصالح والنفوذ، ولا يستند إلى مقتضيات القانون الدولي ومبادئ المشاركة والتعايش والاحتكام إلى الدساتير والقوانين الوطنية. أهلا بمعادلة إقليمية جديدة، سنتعرف إليها أكثر فأكثر في ترتيب شؤون المنطقة في العقد المقبل.
هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!
مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس