سعيد الحاج - مركز الجزيرة للدراسات
تفتخر تركيا وإيران بأنهما دولتان إقليميتان جارتان تتشاركان الحدود الأكثر استقرارًا في المنطقة منذ مئات السنين؛ بيد أن العلاقة بينهما حفلت دومًا بالمواجهات والصراعات، باستثناء السنوات الأولى بعد الحرب العالمية الثانية التي شملت انضمامهما لحلف بغداد.
أعادت الثورة في إيران عام 1979 الطرفين مجدَّدًا إلى تعارض الرؤى والمصالح؛ وذلك إلى درجة أن الخوف من تأثيرات الثورة على الحركة الإسلامية التركية أو سيناريو تصدير الثورة كان من أسباب انقلاب عام 1980 في تركيا.
مع حزب العدالة والتنمية، نشطت أنقرة في سياسات الوساطة وتخفيف التوتر في الإقليم تحت عنوان سياسة تصفير المشاكل، وهو ما أثمر علاقة تجارية نشطة بين الطرفين خلال سنوات حصار طهران، وتُوِّج باتفاق تبادل اليورانيوم الثلاثي عام 2010(5).
بيد أن المرحلة التي بدأت مع الثورات العربية، تحديدًا السورية، ثم الثورة المضادة وكل ما تبعها من تطورات وضعت الطرفين وجهًا لوجه؛ وإن كان بطريقة غير مباشرة؛ حيث أيَّدت طهران نظام الأسد فيما وقفت أنقرة إلى جانب المعارضة، وأدَّى تعارُض المصالح والاصطفافات إلى توتر غير مسبوق في العلاقات بين الطرفين، وصل إلى الحرب بالوكالة أحيانًا، وخروج التصريحات التركية حول إيران عن الخطاب المألوف لدبلوماسيتها.
كان إسقاط أنقرة للمقاتلة الروسية حدثًا مفصليًّا بالنسبة إلى الدور التركي في سوريا؛ حيث قيَّدتها الأزمة أولاً، ثم دفع بها حلُّها إلى مسار جديد عنوانه: التنسيق والتعاون مع موسكو؛ بدءًا من عملية درع الفرات، ومرورًا بمسار آستانا، وصولاً إلى اتفاق مناطق خفض التصعيد.
مع الوقت، تضاءل التناقض في الرؤى بين أنقرة وطهران شيئًا فشيئًا؛ حيث تراجع الدور الإيراني في سوريا نسبيًّا بعد التدخل الروسي، وتراجعت تركيا عن مطالبات إسقاط النظام، واتفق مختلف الأطراف على ضرورة الحل السياسي ومسار التفاوض.
بيد أن عنصر التقارب الأهم والأكثر تأثيرًا بين الجانبين كان وما زال الملف الكردي، وقد زادت حساسية هذا الملف إثر الدعم الأميركي المقدم للمنظمات الكردية المسلحة في سوريا، والاعتماد عليها في معركة الرقة، ثم بلغت ذروتها مع دعوة رئيس إقليم كردستان العراق، مسعود البارزاني، للاستفتاء على استقلال إقليم شمال العراق في سبتمبر/أيلول 2017.
مجريات الزيارة
في الخامس عشر من أغسطس/آب 2017، وبناء على دعوة سابقة من نظيره التركي خلوصي أكار، قَدِمَ رئيس الأركان الإيراني محمد حسين باقري إلى أنقرة على رأس وفد عسكري وسياسي رفيع المستوى؛ وذلك في زيارة هي الأولى من نوعها منذ الثورة الإيرانية، واستمرَّت على مدى ثلاثة أيام.
بيان القوات المسلحة التركية أشار إلى ثلاثة مضامين رئيسة للزيارة: استمرار المكافحة المشتركة لكل المنظمات الإرهابية التي تُهدِّد أمن المنطقة، والتعاون بخصوص أمن الحدود، وتبادل الآراء حول الإسهامات الممكنة من أجل أمن واستقرار المنطقة.
إشارات الرضى الإيراني عن الزيارة ومخرجاتها تبدت في تصريحات باقري عن ضرورتها وأهميتها، إضافة إلى الاتفاقات الموقعة بين الطرفين في المجالين العسكري والأمني؛ وذلك في مقابل تجاوب تركي على شكل زيارة قريبة للرئيس رجب طيب أردوغان إلى طهران.
أهم المواضيع التي أُدْرِجَتْ على جدول أعمال الضيف الإيراني هي:
- ضمان أمن الحدود المشتركة بين البلدين، ومنع المرور غير الشرعي عبرها؛ خصوصًا أن الزيارة تأتي بعد أيام فقط من بدء مشروع بناء جدار عليها بطول 144 كم، وهو ما اعتبر موقفًا إيرانيًّا متقدِّمًا في مكافحة حزب العمال الكردستاني.
- تطوير التعاون في مواجهة المنظمات المصنَّفة على قوائم الإرهاب، وفي مقدمتها الحزب الكردستاني.
- توقيع اتفاقيات للتعاون العسكري والأمني.
- بلورة موقف موحَّد من استفتاء إقليم شمال (كردستان) العراق؛ وذلك باعتباره محطة على طريق استقلال الإقليم، وما له من انعكاسات سلبية على الملف الكردي في كلا البلدين؛ وقد حذَّر وزير الخارجية التركي من أن يؤدي الاستفتاء إلى حرب أهلية عراقية، كما أكد باقري رفض طهران وأنقرة له، واعتباره بداية توتر جديد في المنطقة.
- مواجهة المشروع السياسي الكردي في سوريا.
- معركة تلعفر في العراق، والمخاوف التركية من دخول قوات الحشد الشعبي المدينة ذات التركيبة العرقية والمذهبية الحساسة؛ حيث إن غالبيتها من التركمان الموزعين بين السُّنَّة والشيعة.
- آفاق حلِّ الأزمة السورية؛ لاسيما مسار آستانا، واتفاق مناطق خفض التصعيد.
- الخيارات المطروحة بخصوص إدلب؛ لاسيما بعد سيطرة هيئة تحرير الشام وتركيز واشنطن عليها مؤخرًا.
- خطة تركيا للتدخُّل عسكريًّا في منطقة عفرين (أو غيرها) لمواجهة حزب الاتحاد الديمقراطي على غرار عملية درع الفرات.
مسوغات التعاون
ثمة ملفات عدَّة تُوَتِّر العَلاقات بين تركيا وإيران؛ وخصوصًا في السنوات الأخيرة في مقدمتها التنافس على النفوذ في الإقليم، واختلاف المواقف إزاء الثورة السورية، ودعم إيران للسياسات الطائفية في العراق، وسياسة تفريغ المناطق السكنية في سوريا، ودعمها عددًا من الميلشيات في البلدين، فضلاً عن التنافس على مسارات نقل الطاقة، والتنافس التقليدي في آسيا الوسطى، وتناقض موقفيهما في ملف إقليم ناغورنو كاراباخ.
على الرغم من ذلك اعتمد الطرفان سياسة التواصل وعدم الاصطدام المباشر؛ وذلك حفاظًا على المصالح الاقتصادية البينية، وخوفًا من عواقب الصدام والشحن المذهبي؛ لذا لم تنقطع الزيارات المتبادلة، والتصريحات الإيجابية، والتعاون الاقتصادي بين الطرفين حتى في أوج التوتر بينهما.
بيد أن عددًا من التطورات الإقليمية مؤخَّرًا يدفع الطرفين إلى مستوى أعلى من التنسيق والتعاون؛ أهمها:
1- الأزمة الخليجية؛ التي تنذر بتبدُّل محتمل للتحالفات والاصطفافات في المنطقة، وقد اتخذ إزاءها الجانبان موقفًا مشابهًا داعيًا للتهدئة والحلول الدبلوماسية، ورافضًا للخيارات الخشنة؛ لاسيما أنها تزامنت مع سياق مفترض لتأسيس تحالف شرق أوسطي لمواجهة طهران و"الإرهاب".
2- الأزمة المستمرَّة بين أنقرة وواشنطن على خلفية عدم تسليم فتح الله كولن لها، وتزايد الدعم المقدَّم لحزب الاتحاد الديمقراطي وأذرعه العسكرية في سوريا، وقد وصل التوتُّر بينهما مستوى غير مسبوق بعد نشر وكالة الأناضول الرسمية خريطة لعشر قواعد عسكرية أميركية في الشمال السوري؛ وهذا الافتراق في الأولويات والمصالح مع الولايات المتحدة يدفع تركيا إلى التنسيق والتعاون أكثر فأكثر مع روسيا، وبدرجة أقل مع إيران.
3- الأزمة المتجدِّدة بين طهران وواشنطن إثر التجارب الصاروخية الإيرانية، وعودة الإدارة الأميركية الجديدة لسياسة العقوبات.
4- هدوء المواجهات العسكرية في سوريا بين النظام والمعارضة، واتفاق مختلف الأطراف على الحلِّ السياسي عبر التفاوض؛ الأمر الذي يخفض من مستوى التناقضات في المواقف والمصالح بين تركيا من جهة وروسيا وإيران من جهة أخرى، ولا شك أن استمرار مسار آستانا والنجاح النسبي لاتفاق مناطق خفض التصعيد يصبَّان في هذا المسار، وهو ما يستوجب التنسيق لتجنُّب الصدام بالحدِّ الأدنى.
5- المشاكل الحدودية التي تتطلَّب مستوى متقدِّمًا من التعاون والتنسيق؛ وذلك لأبعادها الأمنية والاقتصادية المتعلقة بمكافحة الإرهاب وتهريب اللاجئين.
6- اتجاه بوصلة تركيا مؤخرًا نحو الشرق (روسيا والصين والهند وإيران)؛ وذلك سعيًا للتوازن والمرونة في سياستها الخارجية المعتمدة منذ عشرات السنين على الغرب حصرًا، وفي هذا الإطار ثمة أهمية توليها أنقرة للعلاقات مع طهران من أجل استقرار المنطقة، إضافة إلى موقف الأخيرة ليلة الانقلاب الفاشل قبل عام، وما تركه من أثر إيجابي لدى أنقرة.
7- الملف الكردي في الإقليم -الذي استدعى فيما يبدو هذه الزيارة عسكرية الطابع أكثر من غيره- باعتباره مصدر قلق كبير ومشترك بين البلدين؛ إذ تعتبر تركيا أي كيان سياسي لأكراد سوريا إرهاصًا لتقسيمها، وكيانًا يمكن أن يتحوَّل إلى منصة إطلاق عمليات لحزب العمال الكردستاني ضدَّها، فضلاً عن انعكاساته السلبية على عملية التسوية مع أكراد الداخل والمجمَّدة منذ صيف 2015. وبشكل مشابه ولكن أقل حدَّة، تنظر أنقرة إلى استفتاء إقليم كردستان العراق -على الرغم من علاقتها الجيدة مع رئيسه مسعود البارزاني- نظرة مشتركة مع طهران بسبب حساسية الملف الكردي في داخلها أيضًا، فضلًا عن توجُّسها من الخطط الأميركية المتعلِّقة بأكراد سوريا على صعيد ملفها الكردي الداخلي كما على صعيد الأزمة السورية.
العامل الروسي
مما يزيد في أهمية زيارة رئيس الأركان الإيراني، ويعطيها أبعادًا أكبر من العلاقات الثنائية استباقها لزيارتي رئيس الأركان الروسي فاليري غيراسيموف ووزير الدفاع الأميركي جميس ماتيس لأنقرة.
ترى تركيا في روسيا الدولة صاحبة اليد العليا في سوريا، ومالكة قرار نظام الأسد، والموازن الدولي للموقف الأميركي السلبي تجاهها، وشريكًا في العملية السياسية ومسار آستانا بما فيه اتفاق مناطق خفض التصعيد، إضافة إلى حاجتها إلى الضوء الأخضر الروسي قبل أي عملية مفترضة لمواجهة حزب الاتحاد الديمقراطي في عفرين، وفي المقابل تُدرك موسكو أنها لا تستطيع إنجاز تسوية في سوريا دون تركيا؛ التي تملك نفوذًا واضحًا لدى المعارضة السورية السياسية والعسكرية، فضلاً عن مصلحتها في احتوائها بعيدًا عن الولايات المتحدة وحلف الناتو.
وعليه، فتوقيت زيارة غيراسيموف بعد قمة طهران الثلاثية، وبعيد زيارة باقري ذو دلالة واضحة حول الملفات الموضوعة على جدولها، وفي مقدمتها اتفاق مناطق خفض التصعيد، ومسار التسوية السياسية، والسيناريوهات التركية بخصوص عفرين ومنبج وريف إدلب، فضلًا عن الملفات الثنائية؛ وأهمها صفقة شراء منظومة S400 الروسية؛ التي وصلت إلى مراحلها النهائية.
تحتاج أنقرة إلى التنسيق مع موسكو؛ وربما طهران بخصوص إدلب؛ التي يبدو أن الولايات المتحدة تضعها على رأس أولوياتها بعد الرقة؛ إذ ركزت مؤخرًا على سيطرة "القاعدة" عليها، وألمحت إلى مسؤولية تركيا الضمنية عن ذلك، قبل أن تنفي ذلك لاحقًا.
تلتقي مصالح كل من تركيا وإيران وروسيا في إدلب لاستباق أي تحرك أميركي-كردي إزاءها على قاعدة الربح للجميع (win - win game)؛ حيث تتمكَّن تركيا من ربط ريف حلب بريف إدلب، والسيطرة على تل رفعت ومطار منغ لحصار حزب الاتحاد في عفرين؛ بينما تضمن موسكو وطهران سيطرة جزئية للنظام السوري في إدلب، وتحديد مناطق سيطرة المنظمات الكردية بما يخدم فكرة وحدة أراضي سوريا.
خاتمة
تتعامل كل من تركيا وإيران ببراغماتية شديدة إزاء الملفات الخلافية القائمة بينهما، وتتجنَّبان المواجهة المباشرة سياسيًّا وعسكريًّا ودبلوماسيًّا قدر الإمكان، كما أن التطوُّرات الميدانية والسياسية الأخيرة في سوريا والعراق تخفض إلى حدٍّ كبير من مستوى التوتُّر بينهما؛ الذي بلغ ذروته خلال السنتين الماضيتين.
من جهة أخرى، وعلى الرغم من أن نتيجة الاستفتاء المفترض في إقليم شمال العراق ليست ملزمة، ولن تكون لها انعكاسات مباشرة على استقلال الإقليم ومستقبل العراق إلا رمزيًّا، وورقة تدعم من موقف أكراده التفاوضي، فإنه (إضافة لعوامل أخرى في مقدمتها التوتُّر مع واشنطن والأزمة الخليجية) يُشَكِّل تهديدًا مشتركًا وأولوية لكلا الطرفين؛ لاسيما أنه يترافق مع تقدُّم ملحوظ للمشروع الكردي الآخر في شمال سوريا بدعم من واشنطن.
مشروع الانفصال أو الفيدرالية/الحكم الذاتي للأكراد في سوريا والعراق سيُؤَثِّر بشكل مباشر وغير مباشر على الدولتين الأخريين من الدول الأربع؛ التي يتوزع عليها الأكراد تاريخيًّا؛ أي تركيا وإيران؛ مما يجعل الطرفين يوليان أهمية كبيرة للتعاون والتنسيق فيما بينهما لتأجيل الاستفتاء بالحدِّ الأدنى إن لم يستطيعا إلغاءه؛ لاسيما أن أنقرة قادرة على الضغط على البارزاني بورقة العلاقات الاقتصادية وعقود الطاقة.
من جهة أخرى، فالسلوك الأميركي المتجاهل تمامًا للمصالح التركية في سوريا يجعلها ترى نفسها أقرب إلى موسكو وبدرجة أقل إلى طهران منها إلى واشنطن؛ لاسيما في ظل فتور علاقاتها مع الاتحاد الأوروبي وحلف شمال الأطلسي؛ ذلك أن مسار الحل في سوريا يبدو تفاوضيًّا ومتأثِّرًا بأوراق قوَّة كل طرف من أطراف الأزمة، والسيطرة الميدانية من أهم أوراق القوَّة المطلوبة؛ لذا تحرص تركيا على مدِّ مساحة نفوذها، وتقليص مساحة سيطرة المنظمات الكردية قدر الإمكان؛ ومن هنا تنبع فكرة العملية العسكرية المفترضة في عفرين أو منبج، أو غيرهما.
تطوُّرات الملف الكردي في سوريا تحديدًا التي كانت السبب الأبرز في تبدُّل المقاربة التركية للأزمة السورية تتضافر اليوم مع محطة الاستفتاء في العراق؛ التي تراها أنقرة وطهران خطرًا على أمنهما القومي، وتفرض عليهما تحييد ملفات الخلاف قدر الإمكان، وتوحيد الجهود لمواجهة الأخير وتأجيله؛ ومن هنا كانت زيارة باقري الاستثنائية وجدول أعمالها والتطلعات المستقبلية المبنية عليها، ويُعَدُّ استعداد إيران للتعاون ضدَّ الكردستاني تراجعًا من إيران في سياستها حول المسألة الكردية؛ لاسيما مع تصريحات أردوغان أن هناك احتمالاً لعملية مشتركة بين البلدين ضد الإرهابيين.
التوافق التركي الروسي الإيراني حول مصير إدلب، وعملية تركية مفترضة في عفرين سيكون له بالغ الأثر في تثبيت اتفاق مناطق خفض التصعيد وإنجاحه؛ وذلك بما يساعد على ترجيح فرص المسار السياسي لحلِّ الأزمة السورية؛ إذ تمثِّل الدول الثلاث الأطراف الداعمة والراعية لطرفي الأزمة، والقادرة على الضغط عليهما باتجاه الحلِّ.
لكن كل ذلك لا يعني أن كلًّا من تركيا وإيران قد تجاوزتا تمامًا الملفات الخلافية وحالة التنافس الشديد بينهما على النفوذ في الإقليم وفي عدة ملفات؛ وإنما هو التقاء مصالح مؤقت، ومواجهة أخطار مشتركة اضطرارية، واستشراف لمكاسب استراتيجية ممكنة في حال التنسيق أو التعاون؛ بينما تبقى التحالفات الراسخة والتبدلات الاستراتيجية في المواقف صعبة ومستبعدة؛ وذلك في ظلِّ حالة السيولة التي تُسيطر على المشهد في المنطقة، خصوصًا سوريا والعراق؛ الأمر الذي يُلقي بظلاله على كل الأطراف المتشابكة معهما.
هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!
مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس