أحمد عبد الرحمن - خاص ترك برس

كثيرة هي الحكايا المثيرة التي رويت عن ملحمة جناق القلعة في الحرب العالمية الأولى، وما زالت تروى إلى الآن بنفس الزخم وكأنها حدثت منذ وقت قصير.

أثناء الحرب العالمية الأولى حاول الحلفاء السيطرة على إسطنبول، ولهذا الغرض توجهت أساطيلهم عبر مياه البحر المتوسط إلى مضيق جناق قلعة. بدأ العثمانيون التحضير للدفاع وكان الطريق الأسهل الأكثر أماناً لنقل العتاد والجنود هو طريق بحر مرمرة، ولهذا الهدف أعلنت التعبئة العامة ووضعت جميع المراكب في المياه العثمانية دون استثناء في خدمة المجهود الحربي، من بين هذه السفن كانت هناك سفينة مملوكة لشركة مدنية للنقل تسمى "خيرية"، مصنوعة في العام 1881م، وطولها 110 أمتار، تحمل اسم عاصمة الشمال السوري حلب، ورغم أن حلب ليست مدينة ساحلية، إلا أن لها على ما يبدو أهمية خاصة في الوجدان التركي، وفي الحقيقة فقد قدمت هذه المدينة عدداً كبيراً من الشهداء في معركة جناق قلعة التي نعود إليها، فقد جوبهت محاولة الحلفاء لعبور مضيق الدردنيل بعناد ومقاومة شديدين من قبل العثمانيين، وبهدف كسر صمودهم توجب على الحلفاء استخدام سلاح الغواصات للعبور تجنباً لضربات سلاح المدفعية العثماني القوي. وبعد محاولات فاشلة من قبل غواصات الحلفاء لعبور المضيق، نجحت الغواصة الاسترالية AE2 في ذلك، لكنها وقبل أن تقوم بإغراق أي سفينة عثمانية تم اكتشافها والقبض على طاقمها وإغراقها. لكن المسار الذي سلكته هذه الغواصة كشف للحلفاء طريقاً للمرور إلى بحر مرمرة.

في 19مايو / أيار 1915م سلكت الغواصة E11 بقيادة النقيب الإنجليزي مارتن سميث هذا الطريق ودخلت بحر مرمرة، وبدون أن يضيع وقته، وبعد إغراقه لأول سفينة عثمانية، تابع التقدم في مياه البحر. استمرت مهمته هناك ما يقارب 7 أشهر، وطوال هذه الفترة نجح في إغراق 94 سفينة عثمانية من بينها السفينة الحربية خير الدين بربروس فخر البحرية العثمانية، وكان يتم إخلاء العاملين في السفن قبل غرقها بشكل كامل في قاع المضيق.

في الواقع كان الهدف الرئيسي للحلفاء هو ميناء أكباشي الذي كان يتم عبره نقل الذخيرة والمؤن إلى الجبهة، ومن هناك كانت السفن تحمل الجرحى إلى الميناء ومن ثم إلى مشفى تأسس في إسطنبول مهمته علاج أولئك الجرحى، وقد نجحوا في تحييده لكنه عاد للعمل مرة أخرى في 25 أغسطس/ آب 1915م.

في إحدى الليالي تم وضع 200 جريح في السفينة حلب وكانت مهمتها نقلهم إلى إسطنبول.

في الساعة 7:20 من صبيحة اليوم التالي وقبل إبحار السفينة حلب من الميناء، كانت الغواصة E11 موجودة بجوار الميناء. وعندما اكتُشِف أمرها قام زورق حربي ومدمرة عثمانية بإطلاق النار عليها لإبعادها، وهنا رصد النقيب سميث ثلاث سفن راسية في الميناء وقام على عجل بتنفيذ هجومه الأخير.

وقد روى ما حدث يومها في دفتر مذكراته حيث قال: "رأيت ثلاثة سفن في الميناء، أقربها إلينا كانت ترفع راية الهلال الأحمر فامتنعت عن مهاجمتها، حددت السفينة الأخرى كهدف، ولكونها لا تحمل أي علامة قلت لنفسي إن من المحتمل أنها كانت تنقل الذخائر إلى الجبهة، ولذلك أمرت بإطلاق الطوربيدات عليها ما أدى إلى إصابة مقدمتها وبدأت بالغرق".

لكن النقيب سميث كان مخطئاً، كانت تلك هي السفينة حلب المخصصة لنقل الجرحى والتي مع الأسف لم تكن تحمل راية الهلال الأحمر وكان بداخلها 200 جريح كما ذكرنا، والذين بسبب إصاباتهم لم يستطيعوا الخروج من السفينة قبل غرقها، والنتيجة كانت ارتقاء 200 شهيد تم انتشال جثامينهم لاحقاً ودفنوا في ميناء أكباشي حيث أقيم هناك صرحٌ للشهداء تخليداً لذكراهم."

لم تذهب دماء هؤلاء الشهداء وغيرهم ممن سقطوا دفاعاً عن وطنهم في جناق قلعة هدراً فقد انتهت المعركة بانتصار أسطوري معمد بدمائهم، وتم طرد آخر جندي من جنود الغزاة من هناك في يناير/ كانون ثاني 1916م.

بعد ما يقرب من قرن أرسلت إلى "متحف البحر" في بشكتاش بإسطنبول لوحة تحمل اسم السفينة حلب، من قبل وريث لأحد المحاربين الأسكتلنديين المشاركين مع الحلفاء في معركة جناق قلعة، وهي اللوحة الأصلية للسفينة، وكان جده قد احتفظ بها كذكرى بعد انتهاء الحرب، في المتحف تم ترميمها وإعادة طلائها لتكون شاهداً على ملحمة في تاريخنا الإسلامي الحديث تسمى جناق قلعة.

هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!