ندرت أرسنال  - يني شفق 

لقد وضعت عنوانًا لأحد مقالاتي سابقا "معهد ضبط التوقيتات ذات الدلالة"، والآن لم يعد هناك "ضبط". هنالك شعور بوجود "مقياس" ما، لكنه يبدو على وشك أن يتجاوز الخط المرسوم. لا مفاجآت هنا؛ فحالة الغموض وعدم اليقين التي تتوسط النظام العالمي الجديد سيكون على هذا النحو…

إن مجزرة السيارات في كندا،مرتبطة بلا شك بالانتخابات الجارية في البلاد، وهي بدورها واحدة من التموجات التي سبّبتها سياسات إدارة ترامب. المثال محدود الأثر، ولكن مجرد أسماء الأطراف - "الليبراليون" و"المحافظون" - تمنحك دلالة على جوهر الصورة.

ولكن انقطاع الكهرباء في إسبانيا وفرنسا والبرتغال وبلجيكا وعدد قليل آخر من المناطق الكبيرة والصغيرة، يمثل أمرًا جللًا في أوربا. ويصف مسؤول في شركة توزيع الكهرباء في إسبانيا ما جرى بأنه "حدث لم يسبق له مثيل في التاريخ" (مع العلم أنها وقعت أيضًا في عام 2016). وكان وزير الداخلية الإسباني مساء الاثنين يستعد لإعلان "حالة الطوارئ".

وقد أرجع البعض السبب إلى "حركات جوية" لا أعلم صحة ذلك، ولكن ما حدث سيفتح الباب مجددًا لنقاشات كبرى حول مدى استقرار الطاقة المتجددة، ما يعني أن هذا الحدث مرتبط بالنظام العالمي الجديد. تمامًا كسقوط الحكومة الألمانية الموالية لبايدن والتي قامت في عهده بإغلاق المفاعلات النووية ثم أعادت فتحها على مضض مع تصاعد الحرب في أوكرانيا، بل بدأت حتى في إعادة تشغيل مناجم الفحم. واليوم سيتم استبدل وزير الخارجية "المصنّع في أميركا" بشخصية "محافظة".

إن مواجهة أوروبا للظلام يتناسب تمامًا مع العتبة التي تجري فيها المناقشات حول غموض العالم الجديد وترهّل النظام القديم...

إن الحرب الروسية الأوكرانية والإبادة الإسرائيلية في فلسطين أصبحتا من المسلمات، ولا نتحدث حتى عن مجازر العالم الحديث. يا لها من مفارقة مخزية؛ فبينما تشير آخر الإحصائيات أن الإنفاق العالمي على الأسلحة بلغ 2.7 تريليون دولار، لا يمكن العثور على صحن من الأرز في غزة.

وأما إيران، فإن التوتر المتزايد في ظل استمرار المحادثات الإيرانية الأمريكية، والانزعاج الإسرائيلي الواضح من تلك المحادثات، كلها أجزاء من المشهد الأكبر. والخوارزمية متشعبة للغاية بحيث تشمل الصين وروسيا والهند وباكستان وأفغانستان والعراق وسوريا والبصرة ودول الخليج وأذربيجان وبحر قزوين. فهل من قبيل المصادفة أن يتسابق كل من الرئيس الإيراني ورئيس الوزراء الإسرائيلي إلى باكو ؟

وفي هذا التوقيت بالذات، يقع انفجار مروّع في ميناء بندر عباس الإيراني، على ساحل الخليج العربي، داخل منطقة تُعد من الأشدّ حساسية في البلاد. خلَّف أكثر من 60 قتيلاً و1100 جريح، فيما استغرق إخماد الحريق أيامًا. كانت مشاهد الانفجار مروّعة للغاية. فهل هو حادث عرضي؟ الجدير بالذكر أنه وقع في اليوم نفسه الذي عُقدت فيه المفاوضات الأميركية الإيرانية.

وفقًا للتصريحات الرسمية الأولى والتقارير الأولية، فإن الحادث نجم عن انفجار داخل إحدى الحاويات. من يصدّق هذا؟ وها هو المرشد الأعلى في إيران يأمر بفتح تحقيق شامل. لكن، سواء طُمست الحقيقة لاحقًا أو جرى تقديم جهة ما كمتهم بحسب مقتضيات الظرف السياسي، فذلك ليس مهمًا. قد تكون إسرائيل، أو أطرافًا عسكرية أو مدنية من داخل طهران ذات أجندة خاصة تسعى للتأثير في السياسة الخارجية. لكن الأهم من ذلك كله، هو أن "الوضع الغير طبيعي" ذاته بات هو القاعدة الجديدة.

بمناسبة قربها؛ هل يمكن الاستهانة بمسألة باكستان والهند؟ بالطبع لا. لقد أشرنا إليها سابقًا في مقال (27/04) لكن الأمور تتصاعد. والحرب بين هاتين الدولتين ليست لعبة. هذه الأزمة تدار بنفس السيناريو. والعمل الإرهابي الذي وقع بالتزامن مع زيارة نائب الرئيس الأمريكي للهند يدق أجراس الخطر في المنطقة بأسرها.

إن هذا التوتر الذي اندلع في مرحلة تتسم بنوع من الدفء في العلاقات الهندية الصينية—وإن لم تكن خالية من المشاكل—وفي وقت تتقارب فيه نيودلهي مع كل من واشنطن وموسكو، بلغ من حدّته أنه بات قابلاً لإشعال النار في الماء ذاته. فقد علّقت الهند “اتفاق المياه” مع باكستان، وسرعان ما تلا ذلك تصريح صيني مباشر: "سنقطع المياه المتجهة إلى الهند". كلها حلقات في سلسلة واحدة...

ولن نخوض في التفاصيل الدقيقة، ولكن كثيرون اليوم يبحثون عن خيوط هذه الهجمات داخل الهند وباكستان.

ولا تقللوا من أهمية موت البابا واختيار البابا الجديد في الفاتيكان. فإعلامنا، كعادته، يسبح في المياه الضحلة متسائلاً: كيف يُنتخب البابا؟ وكيف سيبقى الكرادلة محبوسين؟ وماذا يعني صعود الدخان الأبيض أو الأسود؟.. هل هذه هي المسألة الجوهرية فعلًا؟

ثمة فيلم جديد، صدر عام 2024 بعنوان "Conclave"، وقد عُرض في دور السينما لدينا أيضاً. أنصح بمشاهدته، فهو يختصر المسألة بوضوح. والنتيجة التي سيتوصل إليها من يمعن النظر فيه هي: "من سيكون بابا النظام العالمي الجديد؟"

فهل تظنّون أن الكرادلة، في مداولاتهم السرية أو العلنية، معزولون عن الولاءات والانتماءات؟ هناك كرادلة ينتمون إلى المعسكر الليبرالي، وآخرون إلى المعسكر المحافظ، وبعضهم يجسّد النظام القديم والجديد. وانطلاقاً من هذه الخلفيات سيصوّتون لاختيار البابا الجديد.

فإلى من سيصوّت كرادلة أميركا اللاتينية؟ هل إلى بابا يدعم ترامب؟ أم إلى بابا ينتمي للمدرسة الأوروبية؟ وماذا إن جاء البابا من إيطاليا؟ وكيف سيكون موقفهم من قضايا مثل: المثليّة، واستغلال الأطفال، وزواج المثليين، والإحصاءات الديموغرافية، وطبقات النفوذ في مجالات الطاقة والمال والأمن؟

ألم نرَ كيف تحاربت الطوائف المسيحية الرئيسية في الحرب الأوكرانية، وفي العالم الأرثوذكسي؟ فإن أتى بابا أسود البشرة فسيحمل ذلك دلالة معيّنة، وإن اختير بابا بولندي فستحمل المسألة معنى مختلفاً، كما حدث سابقاً.

والواقع أن فيلم Conclave ليس الأول من نوعه، فقد سبقه فيلم آخر بعنوان "The Conclave" (صدر عام 2006)، يتناول انتخاب أول بابا بعد سقوط القسطنطينية بيدنا عام 1453. ونرى فيه نفس النمط يتكرر: مسألة البابا ليست إلا تجلياً لتوازنات النظام العالمي.

لقد بات واضحاً أن "الكنيسة" بالنسبة إليهم شيء، و"الإله" شيء آخر تماماً’

أما تلك الصورة المُلفتة لترامب وزيلينسكي وهما يتحدثان بانحناءة أمام نعش البابا في قلب الكاتدرائية؟ فهل هذا طبيعي؟

في العلاقات الدولية، ، للشكل والمظهر رمزيته، وله دلالاته وأهميته البالغة. لا يُغفل عنه شيء، ويحاول الجميع تحليله وفك شفراته، حتى وإن لم يكن مرتبطة بحدث مباشر. فالرمزية في حد ذاتها قد تكون ذات مغزى.

خذوا هذه الصورة، وضعوها إلى جانب صورة اللقاء الشهير بين البابا يوحنا بول الثاني وعلي أغا في السجن... التشابه شكلي، نعم،لكن الصراع على إعادة تشكيل العالم في كلتا الحالتين واحد.

إن وتيرة الأحداث تتسارع بشكل كبير في المنطقة، وهذا بحد ذاته علامة.

عن الكاتب

ندرت أرسنال

صحفي وكاتب تركي


هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس