أشرف دوابه - عربي 21
شهدت الليرة التركية خلال الأيام القليلة الماضية تدهورا ملحوظا، وخرجت عن نطاق المأمول، لا سيما بعد تعافيها جزئيا بعد الانتخابات الرئاسية. وقد هبطت الليرة التركية بنسبة 35 في المئة منذ منتصف شهر شباط/ فبراير الماضي، ووصلت إلى أدنى مستوياتها على الإطلاق يوم الجمعة الماضي، حيث تراجعت بنحو 16 في المئة، ثم استمرت في تراجعها يوم الاثنين حيث انخفضت بنسبة 10 في المئة خلال الجلسة المسائية، لتصل إلى أدنى مستوى لها عند 7.1326 مقابل الدولار الأمريكي، قبل تقليص بعض الخسائر لتصل إلى 6.9747 مقابل الدولار، ثم شهد أمس الثلاثاء تقليصا أكبر لخسائر الليرة لتصل في نهاية الْيَوْم إلى 6.3276 مقابل الدولار الأمريكي، بنسبة ارتفاع 9.3 في المئة عن الْيَوْمَ السابق.
وقد تم التخفيف من أثر الانخفاض المتنامي في الليرة، في ظل إعلان البنك المركزي صباح الاثنين تعهده بتوفير السيولةوخفض متطلبات الاحتياطي للبنوك التركية، مؤكدا أن هذه التحركات ستحرر 10 مليارات ليرة و6 مليارات دولار، وما يعادل 3 مليارات دولار من سيولة الذهب في النظام المالي، فضلا عما سبق ذلك بيومين من تصريحات لوزير المالية بيرات ألبيرق بأن تركيا ستبدأ في تنفيذ نموذج اقتصادي جديد في نهاية العام الجاري، يتم من خلاله التحرك بشكل فعال لتأمين الليرة التركية، ومكافحة التضخم، وعلاج عجز الموازنة، وعجز الميزان التجاري، وتطبيق نظام للضرائب أكثر عدلا، والزيادة في فرص العمل، وتنويع الموارد بما يخص الدين العام، وضبط القروض الشخصية لتتناسب مع معدلات الدخل.
ومع ذلك، فإن المتابع للتحرك الحكومي وصانعي السياسة النقدية يجد أن تحركهم كان بطيئا، بل وتراخوا في مواجهة الأزمة، وكان الأولى بهم الكشف المبكر لها، فضلا عن سرعة التعامل معها، خاصة وأن إنذاراتها ليس وليدة اللحظة، بل ظهرت بوضوح قبل الانتخابات الرئاسية المبكرة وهو ما دفع الرئيس أردوغان إلى قطع حبل التآمر على المتامرين الذين لم ييأسوا ولملموا حبل تآمرهم، واستمروا في ذلك بعد اختيار الشعب التركي له رئيسا. وقد بدا ذلك واضحا في فرض الولايات المتحدة الأمريكية عقوبات على وزيرى المالية والعدل التركيين، ورد تركيا بالمثل، على خلفية المطالبة بالإفراج عن القس الأمريكي أندرو برانسون؛ الذي يحاكم في تركيا بتهم التجسس والإرهاب، ثم السلوك العدواني للرئيس الأمريكي دونالد ترامب نحو تركيا، وبيان تشفيه في انخفاض الليرة التركية حينما كتب على تويتر: "لقد أمرت للتو بمضاعفة الرسوم الجمركية للحديد والألمنيوم على تركيا لما يحدث لعملتهم. الليرة التركية تنزلق سريعا نحو الانخفاض مقابل الدولار القوي جدا! ستكون رسوم الألمنيوم الآن 20 في المئة والحديد 50 في المئة. علاقاتنا مع تركيا ليست جيدة في هذا الوقت".
إن تركيا تمر بأزمة وهذه الأزمة أسبابها سياسية بامتياز، وهذا لا يعني عدم وجود أي دور للاقتصاد فيها، بل إن المتآمرين استغلوا مواطن ضعف في الاقتصاد وضربوا على ذلك الوتر الحساس، من خلال إعلان حرب اقتصادية على تركيا لعرقلة وجهتها لتكون ضمن دول العالم العشر الكبار اقتصاديا، ومن ثم الحيلولة دون تقدم المارد الاقتصادي الإسلامي لإثبات وجوده والاعتماد على ذاته. فمما لا شك فيه أن تركيا تمتلك بنية اقتصادية حقيقية، ولكن تواجهها مشكلة الدين الخارجي المتعلق بالقطاع الخاص؛ الذي اعتمد في مشاريعه على قروض أجنبية تقدر بنحو 224 مليار دولار، وفقاً لبيانات البنك الدولي للتسويات، وتلك الديون في جلها قصيرة الأجل، وهو ما يمثل قيدا على تلك الشركات، ويجعلها تحت رحمة تقلبات سعر العملة. فانخفاض الليرة يعني زيادة أعباء القروض على القطاع الخاص وهو ما قد يعوق قدرتها على السداد، وقد ظهر أثر تلك القروض في انخفاض اليورو إلى أدنى مستوى في أكثر من عام نتيجة لانكشاف بنوك منطقة اليورو على تركيا (لا سيما في إسبانيا وإيطاليا وفرنسا)، والقلق من أن المقترضين ربما يكونوا غير متحوطين في مواجهة انخفاض الليرة.
أما المشكلة الثانية فهي تنامى عجز الميزان التجاري، فقد شهد النصف الأول من هذا العام (مقارنة بمثيله العام الماضي) ارتفاع الواردات التركية بنسبة 13.5 في المئة، محققة مبلغ 122.9 مليار دولار، في مقابل ارتفاع للصادرات بنسبة 6.3 في المئة، محققة مبلغ 82.2 مليار دولار. ولذلك حقق عجز الميزان التجاري مبلغ 40.7 مليار دولار، بنسبة ارتفاع 31.6 في المئة.
ولكن رغم هاتين المشكلتين، فإن الاقتصاد التركي فيه من مناطق القوة ما لا يخفى على كل عادل مطلع، فالناتج المحلي الإجمالي جاوز 850 مليار دولار، وقد حقق الاقتصاد أعلى معدل للنمو في دول العشرين في العام الماضي بنسبة 7.4 في المئة، كما حققت الإيرادات السياحية في منتصف العام الجاري أكثر من 16 مليار دولار، وبلغ الاحتياطي من النقد الأجنبي أكثر من 131 مليار دولار، كما أن نسبة الدين العام الخارجي لا تتعدى 28 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي. وتنتج تركيا احتياجاتها الأساسية، فلا تكاد تجد في متاجرها سوى المنتجات التركية عالية الجودة والمناسبة في السعر.
إن الحرب على الاقتصاد التركي، وخاصة العملة التركية، لها مخاطرها، وفي مقدمة تلك المخاطر ارتفاع التضخم الذي وصلت نسبته إلى 14.4 في المئة، وهذا أيضا ضرب على الوتر الحساس لمعيشة الناس، فضلا عن وقوفه معوقا نحو توجه المستثمرين للاستثمار لرغبتهم في الاحتفاظ بما لديهم من العملات الأجنبية لعدم استقرار سعر صرف الليرة التركية، إضافة إلى زيادة أعباء الديون الخارجية، وتحويل الاقتصاد إلى مزيد من التقلبات تفقد معه الثقة وتزداد حالة عدم اليقين أو التأكد، وهو ما يندرج أثره سلبا على جنبات الاقتصاد.
وقد يروج البعض لانخفاض الليرة وكأنه ميزة لتركيا لزيادة صادرتها، هو أمر لايستقيم في الحروب الاقتصادية التي يشنها غيرها عليها، فزيادة الصادرات مرهون بمرونتها، كما أن هذا الانخفاض يترتب عليه زيادة في فاتورة الواردات التي جلها مكونات إنتاج، وزيادة الدين الخارجي، والمزيد من فرض الرسوم على صادرتها باسم الحماية، ويصل بنا في النهاية للركود الاقتصادي.
إن سياسة حرب العملات ليست جديدة، وإن كانت مع تركيا جديدة بفعل اللوبي الصهيوني الذي يحرك الولايات المتحدة. ففي أمريكا مختبر للحروب المالية تعتمد أدواته على أسلحة مالية لدمار اقتصاد الدول التي تختلف معها، وفي مقدمة تلك الأسلحة المتاجرة بالشائعات، والمضاربات، بل وطبع عملات الدول المتآمر عليها، وأمريكا في كل الأحوال لا تقبل المساس بعملتها باعتبارها سر هيمنتها. ففي تقرير للمخابرات الأمريكية ذكر أنه "لا يمكن الهيمنة الأمريكية العسكرية إلا من خلال دور الدولار، وإذا سقط الدولار سيسقط معه الأمن الأمريكي". وفي هذا الإطار تأتي الحرب الاقتصادية على تركيا، والتي وصفها الرئيس رجب طيب أردوغان بقوله: "ما نشهده اليوم لا يشبه أزمات 1994 و2001 و 2007م، بل نواجه في الحقيقة وضعا مختلفا للغاية"
إن الحرب الاقتصادية على تركيا تجعل من حقها الدفاع عن نفسها، وليست حرية السوق قرآنا منزل، ولا الاقتصاد الحر دينا لا يمكن مخالفته، فالأزمات التي مر بها العالم بفعل النظام الرأسمالي، الذي هو نظام الأزمات، جعلت من دور الدولة هو المصحح لويلات هذا النظام، بعيدا عن خرافة أنه يصحح نفسه بنفسه. وليس بعيدا عنا ما فعله الرئيس الأمريكي بوش إبان الأزمة المالية العالمية في العام 2008م، من تأميم شركة "فاني ماي" المختصة بتمويل الإسكان وشركة "فريدي ماك" المختصة بتوفير السيولة للجهات الممولة للمساكن، والمجموعة الأمريكية العملاقة في مجال التأمين "إي آي جي". بل ليس بعيدا عنا أيضا ما فعله الرئيس الأمريكي نيكسون في العام 1971م، حيث خرج علي شعبه في التلفاز معلنا اتخاذ تدابير صارمة ممثلة في فرض رقابة على الأسعار، وفرض ضرائب إضافية على الواردات، وحظر تحويل الدولار إلى ذهب. وذلك لأن البلاد غارقة في أزمة نتجت عن حرب عملات دائرة أدت إلى ضرب الثقة بالدولار.
إن تركيا مطالبة من وجهة نظرنا باتخاذ إجراءات عاجلة ممثلة في حزمة علاجية بصورة مؤقتة لمواجهة تلك الحرب الاقتصادية التي تمس أمنها القومي، وذلك من خلال بث عوامل الثقة لدى الناس، لا سيما من خلال مسؤولي السياسة النقدية، وزيادة الوعي لدى الشعب والمقيمين بتركيا بحثهم على عدم الدولرة وعدم التعامل بالعملات الأجنبية بديلا عن العملة التركية؛ باعتبار المحافظة على وضع الليرة واجب وطني وشرعي، واستخدام الإقناع الأدبي مع مسؤولي البنوك والمؤسسات المالية وشركات الصرافة باعتبار المحافظة على الليرة أمن قومي، ورفع نسبة الاحتياطي القانوني بالليرة وخفضه بالدولار، ووضع قيود على السحب والتحويل للدولار، وتفعيل نظام الرقابة النقدية، لا سيما على شركات الصرافة والمؤسسات والأسواق المالية وفي المطارات، بما يمكن من الوقوف على حركة رؤوس الأموال، وتحريك سعر الفائدة ارتفاعا ضئيلا مؤقتا (باعتبار ذلك في تلك الحرب من الحاجة العامة التي تنزل منزلة الضرورة في حق آحاد الناس)، وذلك سعيا لتحقيق الثقة للسوق بإقرار استقلالية البنك المركزي والحد من التضخم، وتوفير الحماية الاجتماعية لامتصاص الغلاء، ووضع حدود سعرية للعملة تتحرك بينها ولا يتم تجاوزها، مع زيادة الحدود بين سعري الشراء والبيع، وترشيد الواردات وما قد يتطلبه ذلك من فرض ضرائب إضافية، واستخدام ما تيسر من الاحتياطي لزيادة عرض الدولار، لا سيما ما يتعلق بتثبيت سعر الصرف للأقساط المسددة من ديون القطاع الخاص؛ منعا لوقوعهم في مصيدة الإفلاس ومن ثم التأثير سلبا على الاقتصاد.
كما تبدو أهمية تفعيل التعامل باليورو، وربط الليرة بسلة عملات، وتفعيل نظام المدفوعات المتبادلة، لا سيما مع الدول المتضررة من سياسات ترامب، كروسيا وإيران والصين وألمانيا، بعيدا عن الدولار، وفتح باب الحوافز للمستثمرين بعيدا عن البيروقراطية، بما في ذلك إصلاح النظام الضريبي، ومنح الجنسية التركية للمستثمرين الذين يستثمرون في مشروعات تحقق أولوية اقتصادية لتركيا، وكذلك تقديم مزيد من التسهيلات الإضافية للسياح، وفتح أسواق جديدة، لا سيما في إفريقيا. وحينما تزول تلك الأزمة يمكن للرئيس أردوغان إقرار ما يسعى إليه من تطبيق النظام التشاركي بديلا عن سعر الفائدة وويلاتها، وما يترتب عليه من تحقيق التوازن بين الممول والمستثمر دون طغيان أو إخسار، ومن ثم دفع عجلة الإنتاج والاستثمار بصورة حقيقية تعمر ولا تخرب، وتقي الاقتصاد من ويلات التضخم وأمراض الرأسمالية.
إن ما تتعرض له تركيا يعود بنا إلى استخدام نفس الأساليب القذرة من أجل قسيس في عهد السلطان عبد الحميد الثاني، واتخاذ ذلك وسيلة للتدخل في الدول التركية، كما حدث من قبل في الإمبراطورية العثمانية، ولكن مع الفارق، فالسلطان عبد الحميد الثاني كان يسعى بكل جهده لمنع سقوط الدولة العثمانية حيث تولى أمرها في أشد مراحل ضعفها، أما الرئيس أردوغان فنهض بالدولة التركية من موات وعلى يديه تحققت نهضتها، ومن ثم فإن ما يملكه من إيمانه بربه وإرادة مخلصة وإدارة رشيدة وقوة شعبية واعية حاضنة؛ سيجعل من هذه الأزمة تمر كما مر ما قبلها، وستخرج تركيا منها أكثر قوة، وإن كانت مؤمرات الأعداء لن تتوقف، ولكن ستسقط كل مؤامرة على سندان الصمود والصبر التي يتقنها الرئيس أردوغان وشعبه. ويبقى بعد ذلك الدور الشعبي العربي والإسلامي تجاه تركيا التي فتحت قلوبها للمستضعفين والمضطهدين، وذلك بالبعد كلية عن الدولرة، مع ضخ عملات أجنبية بالسوق التركي من خلال فتح حسابات بالبنوك التركية، والاستثمار بتركيا، وكذلك إيلاء أولوية لاستيراد واستهلاك السلع التركية، ومقاطعة السلع الأمريكية.
هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!
مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس