د. عمر بولاط - مجلة التمويل والاقتصاد الدولي
تتحرك تركيا بخطوات ذكية بنموذجها الجديد في الوقت الذي يحاول فيه البعض قلب الوضع إلى فوضى مثل ما نراه في أوكرانيا وسوريا ومصر والعراق وليبيا واليمن. لذلك، أيّ الاستراتيجيات تساعد تركيا في تجاوز المصائد التي وُضعت من قبل التحالفات القذرة؟
إنّ من الممكن تحليل التطورات في تركيا والعالم بشكل جيد فقط عندما يعرفُ المُحلِّلُ تاريخَ الأحداث ويكون مُلِمّاً بالعلاقة السببيّة. ويمكننا بتقييم الأحداث وفق هذا المنظور، رؤية أنّ التطورات التي تحدث اليوم ترجع في الواقع إلى الخطط التي وُضِعت قبل 100 عام وهي استمرار لهذه الخطوات.
أحاطت القوى العالمية بالمنطقة التي تقع فيها دولتُنا، كما تعمّدت بثّ الرّعب في العالم الإسلامي من خلال استراتيجية "فرّق تَسُد" في السابق. وفي هذا الصّدد، ليس من الصّعب فهم سبب عدم وصول الديمقراطية والحرية والرفاهية إلى الدول المسلمة في أفريقيا والشرق الأوسط، والتي وصلت إلى أوروبا الشرقية في 1989-1990.
اتّخذت الحضارات الغربية التي سيطرت على العالم خلال 150 سنة الماضية من الشيوعية عدواً وعدّتها تهديداً رئيسياً لها في الفترة 1945-1990، وبعد تسعينيات القرن الماضي ركّزت على إبعاد الحضارة الإسلامية. لا تريد القوى العالمية وجود دولة مسلمة تحكم نفسها وتملك اقتصاداً قوياً وتقترب من الوصول إلى النضوج الديمقراطي. لذلك تمّ إضعاف الدول الإسلامية باستمرار من خلال الثورات، والصراع الداخلي، والحروب الإقليمية. وفي الوقت نفسه، تصاعد الخوف والكُره تجاه الإسلام في العالم كله وبشكل خاص في الغرب من خلال إنشاء منظمات راديكالية. وبالتأكيد تعكس التطورات في أفغانستان والصومال واليمن ونيجيريا الغنية بالبترول هذه الصورة.
تمّ تخريب مطالب الديمقراطية
في الوقت الذي كانت فيه الدول الغربية والولايات المتحدة منشغلة بمشاكلها نتيجة للأزمة الاقتصادية العالمية في 2008-2009، بدأت الشعوب المقموعة والتي تعاني في الدول الإسلامية ثورةً ضد النظم الدكتاتورية. لم تتدخل الدول الغربية في الثورات في البداية والتي كانت قد انطلقت من أجل الديمقراطية والحرية والرفاهية. ومع ذلك، بعد فترة وجيزة حوّلوا الفوضى إلى فرصة.
تمّ تشكيل بعض التحالفات القذرة بالتعاون مع رأس المال وبيروقراطية الدولة والنخب الإعلامية، لجرّ التوجهات نحو الديمقراطية والحرية إلى الخراب. وكان من المحتم على شعوب ليبيا ومصر وسوريا والعراق واليمن أن يخسروا مرة أخرى. وبدلاً من مزيد من الديمقراطية ظهر مزيدٌ من عدم الاستقرار.
في الوقت الذي كانت المنطقة تواجه كلّ هذه التطورات المأساوية، كان الأداء الاقتصادي الناجح لتركيا في أيار/ مايو 2013 استثنائياً لدرجة مكّنته من عبور أزمة 2008-2009 بنجاح. وصلت المؤشرات الاقتصادية إلى القمّة. تراجعت أسعار الفائدة القياسية للسندات إلى 4,6%، وتراجعت نسب الفائدة الفصلية (لكل رُبع أو ثلاثة أشهر) إلى 0,65% وانخفض التضخم إلى نحو 5,5%. ونُفِّذت مشاريع عملاقة من شأنها أن تجعل التنمية الاقتصادية مستدامة. وُضِعت الأُسُس لبناء الجسر الثالث وجسر خليج إزمير وعطاء مطار إسطنبول الثالث الذي سيكون ثالث أكبر مطار في العالم، ووُقِّعت عقود تركيب المفاعلين النوويّين مع اليابان وروسيا. دُفِعت كلّ الدّيون لصندوق النقد الدولي واستطاعت تركيا أن تحصل على ائتمان استثماري من ثلاث وكالات تصنيف كبيرة.
وبفضل الأداء الاقتصادي الناجح، دخل إلى تركيا 153 مليار دولار من استثمار رأس المال المباشر الخارجي (FDI). وكما كانت المؤشرات تشير إلى نجاحنا التاريخي، فقد تمّت محاولة تغيير الأجندة في أحداث غيزي في 1 حزيران/ يونيو 2013 ومحاولة الانقلاب في سلك القضاء في 17 و25 كانون الأول/ ديسمبر 2014. ولِحُسن الحظ، تجاوزت تركيا هذه العملية الصعبة التي لا يمكن لأي دولة تجاوزها بسهولة. وتمكّنت بيئة الاستقرار والسلام والثقة من تجاوز كلّ المصائد.
التحالفات القذرة لم تصل إلى هدفِها
لا يرتاح البعض أبداً للتطورات الإيجابية في تُركيا مثل انخفاض عجز الميزانية، وتوسّع ميزان الدين العام، وزيادة الصادرات، وبقاء التضخم ومعدلات الفائدة في رقم أحادي، ووصول الاستثمارات في القطاع العام وجودة الخدمات الحكومية إلى معايير عالمية، إضافة إلى عملية المصالحة الوطنية التي تشمل جهوداً لعلاج الجرح الذي نزفت منه تركيا لثلاثين عاماً.
وللاستدلال على مدى عدم الارتياح المقصود، يكفي أن نفهم أحداث كوباني التي تحولت فيها مدنُنا إلى مسارح للحرب. صعدت القوى العالمية وعملاؤها من الداخل إلى المنصة مرة أخرى لوقف التنمية الاقتصادية، وتخريب عملية المصالحة، ومواجهة تركيا بالعرب والأكراد مستغلّة أجندة كوباني وتنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام (داعش).
أولا، إنّ من الغريب أنّ يُركّز تنظيم الدولة بعد اصطدامه في عدد من جبهات المعارك في سوريا والعراق على مدينة كوباني قرب الحدود التركية، لأنّ من شأن ذلك أن يؤدي إلى استنزاف قوّته وسيكون عديم الفائدة من الناحية الاستراتيجية بالنسبة له. إلى جانب ذلك، من المهم الإشارة إلى أنّ الهدف الرئيسي كان جرّ تركيا إلى الصراع المستفز للشعب. إنّ من الواضح أنّ التحالف القذر المذكور آنفاً يهدف إلى جر تركيا نحو الفوضى وتخريب عملية المصالحة.
كيف تمّ تجاوز الألاعيب الدولية؟
هناك حصة من المشاكل الجديدة والسيناريوهات المخططة للشرق الأوسط وأوراسيا على اللأجندة لمئة سنة قادمة. للأسف، تقع الدول المجاورة والشقيقة في هذا الفخ. ففي الوقت الذي يتمّ افتعال المشاكل فيه للعالم الإسلامي وللمنطقة، يتمّ أيضاً تفعيل مكوّنات التّفكّك والاستقطاب ونبش المكونات القومية والإثنية، لإظهار صدوع من شأنها تفجير صراعات في المنطقة، مثل الصراع السني الشيعي، والمعتدل السلفي، والديني العلماني.
تمكّنت تركيا ببنائِها نموذجاً ناجحاً خلافاً لما تهدف له هذه المخطّطات من خلق وعي لدى الشعب التركي يمكّنه من رؤية المصائد بوضوح وتجاوز ألاعيب القوى الدولية. وممّا لا شكّ فيه أنّ أهمّ دور في الاستقرار السياسي والاقتصادي والتنمية يلعبه الحُكم القويّ والحِزب الذي يتولى السلطة بإرادة وطنية. ومن بين العوامل المهمة الأخرى كذلك اكتساب الخبرة من مواجهة نفس المشاكل في السابق، والتجارب المأساوية في السنوات العشرين الأخيرة من العهد العثماني، والذاكرة الحية للثورات في عصر الجمهورية.
ومن جهة أخرى، فإنّ حقيقة أنّ وسائل الإعلام أصبحت واسعة الانتشار وأنّ الشعب يطور سلوكا للتعاون مع بعضه بعد فهمه المُتروّي لجوهر التطورات تلعب دوراً هاماً في تدمير هذه المصائد والألاعيب. وبتحليل نهائي، لا تريد تركيا أن تواجه التجارب المأساوية التي واجهتها في سبعينيات وتسعينيات القرن الماضي. ولا يريد شعبنا أن يخسر المكاسب التي وصل إليها بعد صعود الديمقراطية والحرية والرفاه الاقتصادي وتعاوُن الشعب مع الدولة. فالإرادة الوطنية تقف إلى جانب الاستقرار.
هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!
مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس