معاذ السراج - خاص ترك برس
من يراقب الاصطفافات الحزبية والعسكرية منذ انقلاب 8 آذار/ مارس 1963، يمكنه الخروج بحصيلة لن يكتمل معناها إلا بعد سنوات، وباستلام حافظ أسد للسلطة، حيث سيبدأ عهد جديد في سورية، "العهد البعثي الثالث"، ومن ورائه قوة سلطوية مطلقة، قُدِرَ لها أن تحكم سورية بيد من حديد، منذ ذلك التاريخ، وتُغير فيها كلَّ شيء دون أن تتغير هي قيد أُنملة. استمر العهد البعثي الأول حتى حركة 23 شباط/ فبراير 1966، التي كانت بداية العهد الثاني للبعث، وانتهت بالحركة التصحيحية 1970، التي مثّلت أهم وأخطر المحطات في تاريخ سورية الحديث.
وإذا كان العهد الأول للبعث قد انتهى بانقلاب دموي سقط فيه خمسون قتيلًا، وأطاح بالرئيس أمين الحافظ، إلا أنه شهد النهاية الفعلية للحزب، بعد أن تم نفي واعتقال وملاحقة معظم قادته التاريخيين ميشيل عفلق وشبلي العيسمي وصلاح البيطار ومنيف الرزاز، ولم يسلم من الاعتقال حتى زياد الحريري قائد الانقلاب الذي جاء بالبعث في 8 آذار، ليُبعد بعدها إلى لبنان، ويُمضي فيها أربعة عقود ويموت بعيدًا عن أرضه وأهله، كما ذكر باتريك سيل.
العهد الثاني وضع خاتمته انقلاب ما سمِّي بالحركة التصحيحية في 16 تشرين الثاني/ نوفمبر عام 1970، وكان ضحيته صلاح جديد ومجموعته، صلاح جديد زميل حافظ أسد والمتقدم عليه في الجيش والحزب والطائفة، لكن ذكاءه خانه هذه المرة، فتخلى عن بزته العسكرية، وقد كان برتبة لواء، واكتفى بتولي الأمانة العامة القطرية للحزب، فيما سيطر هو و"حلفاؤه الأطباء"، كما وصفهم حازم صاغية، على أبرز المناصب في الدولة، رئاسة الجمهورية ورئاسة الوزراء ووزارة الخارجية، "ظانًا أن ذلك سيكفل له التحكم بتوازن القوى"، و"متجاهلا في الوقت نفسه، حقيقة مارسها بنفسه، لكنه وقع ضحيتها، في الوقت نفسه، وهي أن المفاصل العميقة التي تتحكم بالقوى العسكرية والمخابراتية، هي التي كان لها الدور الحاسم في كافة التطورات التي حدثت في سوريا منذ الاستقلال وطيلة مرحلة الانقلابات، وهو الأمر الذي تنبه له منافسه حافظ أسد، مع أنه لم يوصف من قبل بأي ذكاء، لكنه ظل حريصًا على تعزيز هيمنته العسكرية والأمنية، فضَمِن وزارة الدفاع إلى جانب قيادته للقوى الجوية، وضَمِن رئاسة الأركان ورئاسة المخابرات، ليذهب بعيدًا في التخليص الطائفي المطلق للسلطة، جاعلًا منها ركيزته الأساسية في الحكم.
وهكذا، وبنهاية العهد الثاني للبعث، طُوي تاريخ ما تبقى من قادة البعث، جديد والأتاسي وزعين، ليدخلوا السجن، ولا يخرجون منه إلا موتى أو مرضى على فراش الموت، فيما أرهقت المنافي بقية الرفاق وأسلمتهم للنسيان.
وإذا كان كل عهد قد ارتبط بمشهد أو مشاهد مأساوية، من التصفيات الدموية، والفوضى والارتجال، بما في ذلك هزيمة حزيران الشنيعة، فإن ما سمِّي بانقلاب الحركة التصحيحية، لم يخرج عن هذا السياق، وارتبط هو الآخر بفصل جديد من فصول المآسي التي مرت بسورية، ليبين إلى أي مدى يمكن أن تبلغ المغامرة والتهور، بضباط وقادة حزبيين، وضعت الانقلابات العسكرية بين أيديهم مسؤوليات أكبر بكثير من أن تحتملها مداركهم وتستوعبها نفوسهم، ومع هذا فإن تلك المآسي كانت تمرُّ دون أن تترك في نفوس أولئك أسفًا أو ندمًا فضلًا عن أي عبرة أو موعظة.
كان هذا الفصل الجديد هو التدخل فيما عُرفَ بـ"حرب أيلول الأسود"، بين الجيش الأردني والفصائل الفلسطينية، عام 1970. وقد حدث هذا بطلب من القيادة القطرية لحزب البعث، حين توجهت ألوية برية من الجيش السوري إلى الأردن، دعمًا للمقاومة الفلسطينية، ضد "نظام عميل"، حسب توصيفهم آنذاك. والغريب في الأمر أن المقاومة الفلسطينية، التي حدث التدخل من أجلها، كانت مضطهدة في دمشق نفسها آنذاك، وجرى التضييق على الفصائل الفلسطينية في سورية، كما أوقفت العمليات الفدائية على جبهة الجولان، كأول جبهة يجري تحييدها في الصراع العربي الصهيوني، بناء على اتفاقات فك الاشتباك مع الصهاينة، مما اضطر كثيرًا من الفلسطينيين للتوجه إلى لبنان والأردن وممارسة نشاطهم من هناك.
وهذا واحد من مواقف كثيرة تذكرنا بعبارة فيليب خوري: "لقد درجت جميع الأنظمة في سورية على شرعنة نفسها بمصطلحات العروبة (وهي بذلك فاقت سائر الدول العربية)، لكنها جميعًا انتهت عاجلًا أو آجلًا إلى تناقض حرج بين الأيديولوجية العربية ومصالح سورية الذاتية، سواء مصالحها كدولة أو مصالحها كنظام".
والأكثر طرافة وغرابة، أن حافظ أسد، قائد القوة الجوية ووزير الدفاع، رفض أن يؤمن الغطاء الجوي لألوية الجيش السوري تلك، مما أوقعها لقمة سائغة لسلاح الطيران والدبابات الأردنية، التي توالت على حصدها، وألحقت بها هزيمة نكراء. لتضع القيادة القطرية للحزب، في موقف لا تُحسد عليه، بعد سنوات فقط من هزيمة حزيران، فما كان أمامها إلا أن تتخذ قرارها بتجريد حافظ أسد وطلاس من رتبتيهما العسكريتين، وتقديمهما لمحاكمة حزبية، في محاولة لتصحيح أخطائها الجسيمة.
أما حافظ أسد، الذي بدا متحسبًا تمامًا لهذا الموقف، فقد استبق قرارات قيادة الحزب، وبادر بانقلابه المسمى بالحركة التصحيحية، ليوجه بذلك الضربة الأخيرة القاضية، إلى رفاق الدرب، وليبدأ عهد عائلة أسد وحلفائهم، يتمكن خلاله من توسيع نفوذه داخل الطائفة والجيش والحزب، وفقًا لمعايير وظائفية وتبعية وتحالفات وجوار، ووفقا لروابط الدم أيضًا. وليكون هرم سلطة يتربع على رأسها، يعاونه في ذلك أخوه رفعت أسد قائد سرايا الدفاع، وعشرات الضباط المقربين، يرافقون حافظ أسد طيلة حكمه، ويساعدون ابنه لاحقا كـ"مستشارين"، وإلى يومنا هذا.
هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!
مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس