معاذ السراج - الرسالة بوست
أنهت هدنة مودروس الموقعة في 30 تشرين الأول/ أكتوبر 1918، العمليات القتالية في الشرق الأوسط بين الدولة العثمانية والحلفاء خلال الحرب العالمية الأولى. أعقب الهدنة، تقسيم أراضي الدولة العثمانية، واحتلال إسطنبول 13 تشرين ثاني/ نوفمبر 1918.
دخلت البحرية الملكية البريطانية والفرنسية والإيطالية ثم الأمريكية إلى القرن الذهبي، وأنزلت قواتها في الآستانة التي تحولت إلى قاعدة لنشاط الحلفاء في المنطقة كلها. سيطر الحلفاء على موانئ البحر الأسود كلها، واقتسموا الأراضي التركية، فاحتل الفرنسيون مرسين وأضنة وسهول كيليكيا، والإيطاليون أنطاكية وكوسه داسي وقونية، واحتل اليونانيون القسم الغربي من الأناضول، بالإضافة إلى إقليم تراقيا.
كانت لإيطاليا مطامع في البلقان وبحر الأدرياتيك، وبحر إيجة، ولأخذ حصتهم حسب اتفاقية مودرس عمد الطليان إلى إنزال قواتهم في مرمريس على شواطئ بحر إيجة وفي أنطاليا على شواطئ المتوسط في آذار/ مارس 1919، وبدأت تتحرك تجاه قونيا وإزمير، ومع أن المنطقة منحت لإيطاليا في اتفاقيات زمن الحرب، إلا أن الحلفاء (بريطانيا وفرنسا)، رأوا في ذلك تهديدا لمصالحهم في شرقي البحر المتوسط, ولذلك فضلوا أن يروا إزمير في أيدي دولة صغيرة تابعة (اليونان)، بدل أن تذهب إلى إيطاليا، وفي 16 أيار/ مايو 1919 تمت دعوة رئيس الوزراء اليوناني فيزينيلوس من قبل المجلس الأعلى للحلفاء، لاحتلال إزمير وما حولها، بدعوى حفظ النظام ومنع الفوضى والمذابح، مع أن النظام كان مستتبا فيها، والجنود العثمانيين استسلموا بشكل سلمي بناء على أوامر حكومتهم في إسطنبول نظرا لتفوق أسطول التحالف، وكانوا يضبطون الأوضاع هناك بانتظار ترتيبات اتفاقية الهدنة، إلا أنهم فوجئوا بنزول الجيش اليوناني في بحر إيجة واحتلال إزمير بحماية البحرية البريطانية والفرنسية والأمريكية، ولم يُعلن عن هذا إلا بعد أن وطئت أقدام الجنود اليونانيين اليابسة.
الكونت سفورزا المندوب السامي الإيطالي، علم بالأمر أثناء اجتماع له مع الحلفاء، وكان شديد الانزعاج وهو يغادر مغلقا الباب خلفه بعنف. لاحقا، وافق الإيطاليون على مضض، شريطة أن يكون الاحتلال مؤقتا، ولا يضر بترتيبات الاتفاق النهائي للمنطقة.
- التواطؤ البريطاني
علاوة على المصالح الاستراتيجية التي كان تُحرك الدول الكبرى، وفي مقدمتها بريطانيا وفرنسا، فقد مثل المسوغ الأخلاقي ذريعة لهذه الدول لتنفيذ مخططاتها، وتعني هنا حماية مسيحيي المنطقة من العثمانيين المسلمين. ولهذا كانت الدعاية في أوربا على الدوام، تنصب على أن الأتراك يقتلون اليونانيين المسيحيين، وكان لويد جورج يؤكد دائما هذه الفكرة، ويقول بأنه "من المنطقي إرسال اليونانيين لحماية يونانيين".
تشرشل ولويد جورج وودرو ويلسون كانوا مؤيدين لليونانيين، ومناهضين للأتراك بحماسة، وأوضح ويلسون أن نقاطه الأربع عشرة، لا تنطبق على الأتراك، خصوصا حق تقرير المصير للشعوب، أما لويد جورج فلم يعترف أصلا بهذه الفتات.
أما اليونانيون، فلم يكترثوا بهذا كله، وتصرفوا على أساس أنهم ينبغي أن يستعيدوا هذه المناطق نهائيا ويمكثوا بها بعد ذلك، ويؤسسوا دولة مسيحية على الجانب الآخر لبحر إيجة، ولهذا كانت عمليات طرد المسلمين وإجلاؤهم من مناطقهم.
من جهة أخرى فإن البريطانيين ليسوا مستعدين لإرسال جنودهم المتمركزين حول مضيق جناق قلعة، لمساعدة اليونانيين في تنفيذ وعودهم بإقامة جمهوريتهم على الجهة الأخرى من بحر إيجة. ويبدو أن البريطانيين فقدوا شهيتهم لمزيد من القتال، مما أجبر تشرشل ولويد جورج في النهاية التراجع عن فكرة دعم اليونان بالمزيد.
تجاهل البريطانيون، أفعال اليونانيين بعد احتلال إزمير، والتوسع في غرب الأناضول، لكنهم بدؤوا بإدراك حقيقة ما يحدث حين بدأت تتوارد إليهم تقارير عن المجازر والهجرة القسرية للمسلمين.
أما الفرنسيون، فقد كانوا يدركون ذلك جيدا، لكنهم فضلوا أن يقايضوا به سياسيا مع الأتاتوركيين من جهة، ومع البريطانيين من جهة أخرى، خاصة وأن تفاهمات سايكس بيكو، كانت موضع التنفيذ، وفي ضوء العجز العسكري الفرنسي أمام البريطانيين، فقد كانوا بحاجة لأوراق يفرضونها على الطاولة.
كان الحلفاء الغربيون، يعلمون حقا أن سكان غربي الأناضول مسلمون بغالبيتهم، ومع هذا فقد قرروا أن يجروا استفتاء عاما خلال خمس سنوات لتقرير الحكم المستقبلي لمنطقة إزمير، وكان من الممكن في ضوء التغييرات الديموغرافية أن يصبح سكان المنطقة يونانيين بالفعل، خلال هذه الخمس سنوات.
لكن الأمر لم يتوقف عند هذا الحد، فقد كانت نوايا اليونانيين أبعد من ذلك بكثير. كان هدفهم إيجاد أكثرية يونانية في مناطق واسعة، وربما على طول ساحل بحر إيجة، وإحداث أرض مسيحية، وربما استرداد أوضاع سابقة على فتح القسطنطينية. وكان هذا مماثلا لمطالب حلفاء البلقان في الحرب الأولى عام 1912، والحروب التي سبقتها، لكن وبخلاف أراضي البلقان فقد كان مسلمو غربي الأناضول يشكلون الأكثرية الساحقة، وجميعهم تقريبا من الأتراك من الناحية العرقية.
كان مجموع اليونانيين والأرمن، بصفتهم يميلون إلى بعضهم البعض، 195 ألفا أرمن و845 ألفا يونان. من أصل 4 ملايين و700 ألف هم مجموع سكان غربي الأناضول، أي أنهم كانوا أقلية لا تتجاوز ربع سكان المنطقة.
مسلمو غربي الأناضول أدركوا حقيقة ما يحدث، كان بعضهم ممن طردوا خلال القرن الأخير من القفقاس أو القرم أو أحفادهم، بينما كان بعضهم الآخر من لاجئي شرق الأناضول التي استولى عليها الروس في الحرب الأخيرة. أدركوا أنه بعد الأناضول لن تبقى هناك أرض تستقبلهم، وبدؤوا يفكرون بأنفسهم قوميا كونهم أتراك، وأن معركة الأناضول ستكون الصمود الأخير لهم. كانت عاصمتهم ترزح تحت احتلال الحلفاء، عاجزة عن الدفاع عنهم، لذلك لم يكن أمامهم إلا أن يتوحدوا ويدافعوا عن أنفسهم تحت الراية القومية التركية. وهذا ما حدث بالفعل.
- احتلال إزمير
من المفارقات، أن الاجتياح اليوناني للأناضول بدأ في إزمير وانتهى فيها.
لا يمكن بحال من الأحوال، عدّ سكان المدن الأتراك خطرا عسكريا، كانت المدن منزوعة السلاح، وتحت السيطرة اليونانية التامة. لم يكن هناك أي مسوغ عسكري للهجوم على المدنيين الأتراك.
ضابط التحالف الأميرال كالثورب، ضابط التحالف، ووالي إقليم آيدين، كان أحد شهود العيان، كان قد اقترح أن يتم احتلال إزمير من قبل التحالف، وطلب إرسال جنود إنكليز وفرنسيين وإيطاليين لحفظ النظام، لكن طلبه رُفض. وفي الوقت نفسه، اقترح على الجنود العثمانيين الانسحاب إلى ثكناتهم منعا للحوادث بينهم وبين اليونانيين، بعد أن أصبح وجودهم في إزمير أمرا واقعا.
تخوف الأتراك من احتلال اليونانيين لإزمير كان مبنيا على دراية بالاحتلال اليوناني سابقا في مقدونيا وتراقيا وكريت، وقد سبق لأكثر من 150 ألفا من مسلمي البلقان أن استقروا في آيدين كلاجئين منذ عام 1912. ولهذا فإن أتراك إزمير بإمكانهم أن يتوقعوا ما يمكن أن يفعله احتلال يوناني لمنطقتهم.
باختصار، فقد كان الوضع مشابها لما حدث للمسلمين الأتراك في البلقان، ولما حدث في الشرق على أيدي الروس والمسيحيين الأرمن.
مع بدء الإنزال، كان اليونانيون يوزعون السلاح المصادر من الأتراك على يونانيي إزمير، وقد احتج على ذلك الممثل العسكري البريطاني في إزمير، رسميا (ولو باستحياء): "... إن هذا الاستنتاج الممكن إذن أن هذا التسليح للسكان المدنيين كان بهدف العدوان على السكان الأتراك". إذا كان نزع سلاح الأتراك والاستيلاء على مستودعاته ومخازنه، أمرا معقولا، فإن توزيع هذا السلاح على اليونانيين المحليين، لن يكون معقولا بحال من الأحوال.
كان نمط الأعمال اليونانية ضد السكان المسلمين ثابتا تقريبا، نزع أسلحة الشرطة والجنود العثمانيين والمدنيين المسلمين، توزيع الأسلحة على اليونانيين المحليين، سجن أو ترحيل موظفي الحكومة العثمانية ورجال الدين المسلمين، بعد ذلك تبدأ أعمال القتل والنهب والاغتصاب، وتدمير المنازل ومباني الحكومة، والمنشآت التي تحمل رمز الهوية الإسلامية، كالمساجد وأديرة الدراويش والمدارس الدينية ومقابر المسلمين. تعرضت كل المدن التي احتلها اليونانيون لأعمال مشابهة، بصرف النظر عن تلك التي أمكن توثيقها بالفعل.
عندما بدأ إنزال القوات اليونانية في الثامنة صباحا في 15 أيار/ مايو 1919، كان الأسقف اليوناني يرحب بها ويباركها بصليبه الأسقفي. فيما كان اليونانيون يحتشدون بانفعال ويملؤون الجو بهتافاتهم الحماسية.
كانت قوات يونانية، تتحرك برفقة مجموعات من الغوغاء، نحو مكاتب الإدارة العثمانية، وتتجاوز وهي في طريقها، الثكنات التركية، حيث اجتمع هناك الجنود العثمانيون العزل.
عندما بدأ إطلاق النار انتشر الغوغاء بمساعدة الجند اليونانيين، وابتدأت عمليات القتل والنهب والسرقات. هناك من قتلوا طعنا بالحراب والسكاكين، وكانوا يجردون الجثامين من الملابس والأشياء الثمينة ويلقون بها في البحر. هناك حالات إطلاق الرصاص على مجموعات من الأسرى الأتراك على مسافة عشرة أمتار. بعض المجموعات زاد عددها على الثلاثين. المدنيون الأتراك واجهوا وحشية شديد من الغوغاء والجنود، وكانوا ينهارون أمام الاعتداءات ولا يستطيعون فعل شيء.
في الأيام القليلة التي تلت الاحتلال اليوناني قتل ألفا رجل من العسكر والمدنيين، بينهم مسيحيون قُتلوا خطأ لأنهم كانوا يضعون الطربوش على رؤوسهم، مع النساء والأطفال في إزمير والقرى المجاورة، ونهبت المخازن والبيوت.
كثير من مذابح المسلمين كانت من عمل (الشيتّا)، العصابات الإرهابية التي كانت متواجدة في الأماكن المستولى عليها، مع الجيش اليوناني، وهي المساوية والموازية للكوميتاجي البلغارية والصربية في حرب البلقان.
كان هناك شهود عيان، بحكم وجود قوات الحلفاء في المنطقة، ضباط بحرية بريطانيون كانوا من بين الشهود، وكذلك مقيمون بريطانيون في إزمير.
آمر السفينة الأمريكية إريزونا قال بأن اليونانيين صرعوا رجالا مسنين أتراك عزلا، ثم قتلوهم بالطعن بالحراب والسكاكين، وكانوا يسمحون للغوغاء بأن يتبعوا الأسرى الذين كانوا يسيرون وأيديهم مرفوعة إلى الأعلى، بمن فيهم ضباط من الرتب العالية وينهالون عليهم بالضرب.
لكن أسوأ المشاهد، حدث في القرى المحيطة بإزمير، عندما تقدم اليونانيون في إقليم آيدين، وأخذوا يتوسعون في غربي الأناضول. كان المدنيون الأتراك حينها يواجهون الموت أو الفرار.
سكان قرى كاملة فروا إلى إزمير، بدلا من البقاء في بيوتهم، مع الخطر الجلي على الأتراك في المدينة، في مؤشر قوي على رعب القرويين الأتراك.
أوربيون كانوا يعيشون في إزمير، أدرجوا بالاسم، مدنا وقرى كاملة، دُمرت عن بكرة أبيها، وسُرقت ممتلكاتها.
أحد الضباط البريطانيين الذين حققوا في الأوضاع: "نهب اليونانيون مستودعات الأسلحة في الريف حول سميرنا (إزمير)، وسلبوا القرى التركية، وطاردوا المسلمين".
على قوائم الموت، أدرجت أسماء مسؤولين ومدنيين أتراك بارزون، ومحرري صحف ومراسلين، وقادة الدرك المتقاعدين. قُتل كثيرون من هؤلاء، وألقي بهم ببساطة في البحر.
في الجزء الثاني من هذه الورقة، سنعرض للوقائع التي حدثت أثناء الغزو اليوناني لغربي الأناضول، وشهادات الشهود والتقارير الرسمية التي تحدثت عن تفاصيل المذابح والتعذيب والقتل والاغتصاب، وأعمال السلب والنهب، وإحراق المدن والقرى، وتدميرها على رؤوس ساكنيها.
هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!
مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس