محمد مختار الشنقيطي - مدونات الجزيرة
منذ أن أعلنت تركيا عن تحديد حدود المياه الاقتصادية والاتفاق الأمني والعسكري بينها وبين ليبيا بدأت تحاك الخيوط، وتتداخل الاستراتيجيات المتضاربة للسيطرة على غاز شرق المتوسط، وعلى مصائر الشعوب الإسلامية المحيطة به من الجنوب والشرق وشمال الشرق. وقد اختلطت المطامح الاستعمارية القديمة والمطامع الاقتصادية الجديدة في ردة الفعل الأوروبية على الخطوات التركية، وكأنما يستغرب الأوروبي -بعنجهية- أن يكون للإنسان المسلم في شرق المتوسط وجنوبه أي طموح للاستقلال الذاتي، أو يكون للشعوب المسلمة على ساحل المتوسط أي تطلع إلى التنسيق السياسي والاستراتيجي والعسكري الذي بلغ فيه الأوروبيون مبلغا عظيما منذ بدايات مسار الاتحاد الأوروبي، رغم أن ما يجمع التركي مع الليبي والتونسي والجزائري من أرحام الدين والتاريخ والثقافة أكثر بكثير مما يجمع اليوناني بالفرنسي والألماني.
ولم تعبأ القيادة التركية كثيرا بالصخب الأوروبي، وبدأت خطاها العملية الواثقة في بناء جسر استراتيجي يربط بينها وبين ليبيا لمصلحة الشعبين. كما لم تعبأ القيادة التركية بجعجعة بعض القيادات العربية، التي هي مفعولٌ بها وليست فاعلة، ودورُها أقرب إلى دور القفازات القذرة التي تغطي أيدي القوى الغربية الساعية إلى استبقاء السيطرة على المنطقة، مع دفع أبناء المنطقة ثمن تلك السيطرة من دمائهم وأموالهم، فيما يشبه "العبودية الطوعية" التي تحدث عنها المفكر الفرنسي (لابواسييه) في كتابه المعنون بهذا العنوان. ومع ذلك لا يزال في ذهن المتابع العربي عدد من التساؤلات حول التصور الاستراتيجي الذي انطلقت منه تركيا في خطواتها السياسية والعسكرية تجاه ليبيا. ويمكننا حصر الاحتمالات حو ل الخلفية الموجِّهة للتدخل التركي في ليبيا في ثلاثة احتمالات:
الاحتمال الأول: أن التدخل التركي يعكس قرارا استراتيجيا تركيا بالتعامل مع ليبيا باعتبارها حليفاً استراتيجيا في الحاضر وفي المستقبل، وبوابةً لتركيا إلى المنطقة المغاربية، ورصيداً استراتيجيا يتوقف على المحافظة عليه الكثيرُ من قضايا الجغرافيا السياسية والطاقة والاقتصاد. وهذا الاحتمال -إذا تبيَّن أنه صحيح- هو أفضل الاحتمالات لكل من ليبيا وتركيا الآن، وللعلاقات العربية التركية على المدى البعيد. وهو الذي يرجوه المؤمنون بأهمية العلاقات التاريخية بين الشعب التركي والشعوب العربية.
ومما يرجح هذا الاحتمال إدراك القيادة التركية أكثر من غيرها أن التدخل التركي في ليبيا مكسب استراتيجي للطرفين، بالنظر إلى تأثيره على أمور كبرى كثيرة منها: اتفاق المياه الاقتصادية الخالصة، وغاز شرق المتوسط، ومستقبل الثورات العربية، والعلاقات التركية المغاربية، والعلاقات التركية الأوروبية. فالتعامل مع موضوع بهذا القدر من الأهمية الاستراتيجية لا يحسن التعامل معه إلا تعاملا استراتيجيا. ومع ذلك فإن بعض المعطيات الميدانية في ليبيا لا ترجِّح -حتى الآن- أن تركيا قد اتخذت قرارها الاستراتيجي النهائي في هذا المسار، بسبب العوائق العملية الكثيرة أمامه، وعدم نضج البيئة الإقليمية والدولية له.
الاحتمال الثاني: أن يكون التدخل التركي مجرد مناورة تركية لاتخاذ ليبيا ورقةَ تفاوضٍ، بحثا عن صفقة كبرى في قضية المياه الاقتصادية وغاز شرق المتوسط، خصوصا ما يتعلق بحدود المناطق الاقتصادية الخالصة بين تركيا من جهة واليونان وقبرص اليونانية من جهة أخرى. وهذا الاحتمال -إن تكشَّف مع الزمن أنه صحيح- سيكون أسوأ الاحتمالات، لأنه يجعل قضية الشعب الليبي والثورة الليبية مجرد وسيلة آنية في الاستراتيجية التركية، بحيث يمكن أن تتخلى عنها تركيا في أي وقت، إذا حصلت على صفقة مناسبة مع الأطراف الأخرى في شرق المتوسط برعاية أميركية-أوروبية. وأغلب من يتبنى هذا الاحتمال هم أصوات الثورة المضادة العربية والإعلام الغربي المتحيز لحفتر. لكن بعض محبي تركيا من العرب يخشونه أيضا رغم أمانيهم بأنه غير وارد.
ويميل المدافعون عن هذا التحليل من محبي تركيا إلى استخلاص العبرة من السلوك الاستراتيجي التركي في سوريا الذي اتسم بكثير من التردد، وتضييع الفرص، وضعف روح المبادرة، والابتعاد عن المخاطرة. لكن قياس ليبيا على سوريا في تقديرنا يشتمل على فروق كثيرة، ليس أقلَّها شأنا أن المصلحة الاستراتيجية التركية المباشرة في ليبيا أكبر بكثير منها في سوريا، فاتفاقية المياه الاقتصادية الخالصة مع ليبيا هي التي ستضمن لتركيا اليوم الحصول على حق التنقيب عن الغاز في مساحة شاسعة من البحر المتوسط، بعد أن خنقتها "اتفاقية غاز شرق المتوسط" بين إسرائيل واليونان وقبرص اليونانية، وجعلت مياه تركيا الاقتصادية شريطا ضيقا جدا لا قيمة له. كما أن العوائق العسكرية في سوريا كانت أكبر، حيث القوات الإيرانية والروسية متحفزة لمواجهة تركيا، بينما الوضع العسكري في ليبيا أخف وطأة وأقل كلفة، وأغلب العوائق أمام تركيا في ليبيا عوائق سياسية لا عسكرية، فلا الروس أو الأوروبيون -فضلا عن المصريين والإماراتيين- مستعدين لمواجهة عسكرية مع تركيا في ليبيا.
أما الاحتمال الثالث فهو أن يكون التدخل التركي تركيبا من الاحتمال الأول والثاني، أي أنه خطوة تكتيكية للحصول على فرص أكبر في غاز المتوسط، وخطوة استراتيجية -في الوقت ذاته- لضمان رأس جسر على الضفة الجنوبية للمتوسط، والتأثير في مصير الثورة الليبية، وبناء علاقات استراتيجية واقتصادية أعمق مع الإقليم المغاربي. وطبقا لهذا الاحتمال فإن تركيا تسعى الآن إلى فتح ثغرة تكتيكية في ليبيا تخدمها في التدافع المتوسطي الحالي، لكنها أيضا تطمح إلى تحويل هذه الثغرة مكسبا استراتيجيا، ونواةً لحلف استراتيجي مع ليبيا، وربما مع الإقليم المغاربي كله على المدى البعيد. وحتى بوجود صفقة كبرى تمنح تركيا بعض ما تطمح إليه من نصيب في غاز المتوسط، فإن تركيا -طبقا لهذا الاحتمال- لن تتخلى عن الشعب الليبي والثورة الليبية.
ونحن نميل إلى أن هذا الاحتمال هو أقرب الاحتمالات إلى الواقع. فلا شك أن القيادة التركية مع الشعب الليبي والثورة الليبية بقلبها وعقلها، وهي تتمنى استقرار ليبيا وانتصار الديمقراطية فيها. والقيادة التركية لا تعتبر ليبيا -ولا سوريا- مجرد وسيلة لتدعيم المكاسب التركية، على نحو ما تتعامل به القوى الاستعمارية مع دول الإقليم. صحيح أن تركيا دولة لها مصالح تسعى إلى تحقيقها، وليست هيئة خيرية أو منظمة إنسانية، لكنها حريصة أيضا على مصلحة الشعب الليبي. فالتشكيك في الدوافع التركية لا يستند إلى دليل، في ظل وقوف تركيا مع كل الشعوب العربية الساعية إلى التحرر من الاستبداد. ومع ذلك فإن تركيا لم تجرؤ حتى الآن على اتخاذ موقف استراتيجي حاسم في ليبيا، بسبب كثرة المعارضين، وتعقيد الوضع الليبي الداخلي، والموقف الرسمي العربي الذي يتراوح بين معارضة تركيا وخذلانها، ووقوف أميركا وأوروبا إلى جانب اليونان وقبرص وإسرائيل في التدافع المتوسطي.
ومن طبيعة السياسة التركية طول النفَس، والحذر الشديد (المغالي في الحذر أحيانا)، ومراعاة كل العوامل المؤثرة في القرار الاستراتيجي، والبدء باختراقات تكتيكية بسيطة ثم البناء عليها لتحقيق الأهداف الاستراتيجية الكبرى. وهذا أمر منطقي في معادلة العلاقات بين "القوى الصاعدة" و"القوى السائدة". فتركيا كقوة صاعدة ليس من مصلحتها –ولا من مصلحة الأمة ككل- أن تصطدم بالقوى السائدة بشكل فجٍّ مرتجَل يُجهض نهضتها، ويئِد قوَّتها، قبل أن تعْبُر خط الخطر، وتصل إلى بر الأمان الاستراتيجي، أو تتحسَّن البيئة الإقليمية والدولية لصالحها بشكل يمكِّنها من تحقيق أهدافها بطريق أخصر وثمن أرخص.
وفي ضوء ترجيح الاحتمال الثالث، أنصح أحرار ليبيا بصياغة استراتيجية واقعية في التعامل مع تركيا، تتركز على الاستفادة القصوى من الخطوة التكتيكية التركية الحالية، والسعي إلى تحويلها خيارا استراتيجيا تركيًّا متكامل الأركان. وهذا أمر ممكن بشيء من التخطيط الاستراتيجي الذي يجمع بين الواقعية والطموح، وفهم تعقيدات الوضع التركي والإقليمي والدولي المحيط بالقضية الليبية، دون رفع سقف التوقعات إلى مستوى لا تسمح به ظروف تركيا الداخلية والخارجية. فليس مطلوبا من تركيا أن تكون شريكا في القتال المباشر على الأرض الليبية، بل أن تكون رادعا لحفتر وحلفائه، ومحققا لتوازن القوة بشكل يفرض على حفتر وحلفائه القبول بوقف لإطلاق النار، وبحل سياسي توافقي في صالح الحكومة الشرعية. ويمكن ترتيب الأولويات التي ستغير المعادلة الليبية لصالح تركيا وحكومة الوفاق في أربعة أمور بالترتيب: كسر الطوق عن طرابلس، وكسر تفوق حفتر الجوي، وتحييد بلدة ترهونة، وانتزاع حقول النفط من حفتر.
أما أولوية الأولويات فهي كسر الطوق عن طرابلس، وهي الآن قضية حياة وموت اليوم بالنسبة لمستقبل ليبيا، ومستقبل العلاقات الليبية التركية. وكل مكاسب تركيا وحكومة الوفاق الليبية ستظل في خطر ما دامت قوات حفتر موجودة في محيط طرابلس. وتحتاج تركيا إلى كسر هذا الطوق فورا، حتى ولو اقتضى الأمر توجيه ضربات جوية على قوات حفتر جنوب طرابلس. فهذه هي الخطوة الأولى لتغيير المعادلة الاستراتيجية. لصالح حكومة الوفاق والعلاقات الليبية التركية.
أما الأولوية الثانية المهمة التي تلي كسر الطوق عن طرابلس في الأهمية التكتيكية فهي تحييد سلاح حفتر والإمارات الجوي، لأن التفوق الجوي يجعل قوات حكومة الوفاق في خطر دائم. وتستطيع تركيا ردع طيران حفتر والإمارات بالتهديد، وباستعراض الطيران العسكري التركي بصورة رمزية في الأجواء الليبية، وبتزويد حكومة الوفاق بسلاح مضاد للطيران، ومضاعفة تزويدها بالطيران المسيَّر.
أما طرد حفتر من مدينة ترهونة، فهو الأولوية الثالثة، لأن ترهونة قريبة من طرابلس (نحو ٨٥ كلم) وهي خطر كبير عليها. لكن قوات حفتر في ترهونة تنتمي لقبائل من غرب ليبيا لا من شرقها، وهذا يجعل طردها من المنطقة الغربية أصعب. لذلك يمكن التوصل إلى هدنة مع مقاتلي حفتر في ترهونة بتجريدهم من سلاحهم الثقيل، وجعل مدينتهم منقطة رمادية حيادية، كحل وسط ضمن اتفاق إطلاق النار.
وأخيرا يأتي انتزاع حقول النفط من حفتر أولويةً رابعةً. فسيطرة حفتر على حقول النفط يعطيه ورقة تفاوض قوية في الضغط على حكومة الوفاق، وفِي الضغط على الدول الأوروبية التي تستورد النفط الليبي. لذلك يجب أن يتضمن الجهد التركي الساعي إلى تجريد حفتر من عناصر قوَّته انتزاع حقول النفط من يد حفتر، ووضعها بيد حكومة الوفاق، أو جعلها من المناطق الرمادية الحيادية على الأقل.
وبهذه الخطوات الأربع تكون تركيا قد وضعت يدها على مفاتيح المسألة الليبية، وقدَّمت مساعدة لا تقدَّر بثمن للشعب الليبي، ونصرتْ إحدى الثورات الكبرى في تاريخ العرب المعاصر، وضمنتْ لنفسها وجودا استراتيجيا آمنا على الضفة الجنوبية للمتوسط، وفتحتْ لنفسها أبواب الإقليم المغاربي على مصراعيه، وأحيتْ الأرحام الدينية والتاريخية بين الشعوب الإسلامية في حوض المتوسط، ومهَّدت الطريق لتحرر هذه الشعوب من الوصاية الأجنبية.
ويستطيع ثوار ليبيا وأحرارها العاملون تحت راية الحكومة الشرعية الاستفادة من تجربة تركيا في بناء "الجيش الوطني السوري" في شمال سوريا، لتوحيد فصائلهم المقاتلة وفرض شيء من الانضباط العسكري في صفوفهم، والاستفادة من الخبرة التخطيطية التركية في صياغة استراتيجية فعالة للدفاع عن طرابلس بعيدا عن المعارك الجانبية المستنزِفة. ويتعين على حكومة الوفاق الشرعية تكثيف العمل الدبلوماسي، خصوصا في الفضاء المغاربي والأوربي، مع التركيز على الجزائر ذات الثقل الاستراتيجي والحدود الطويلة مع ليبيا. كما يتعين عليها السعي إلى التقريب بين الرؤية التركية والروسية في ليبيا. فليس من مصلحة روسيا سقوط ليبيا بيد حفتر، وهو جنرال عجوز سلخ سنوات عمره متعاملا مع وكالة الاستخبارات الأميركية (سي آي أيه). وقد يكون التدخل الروسي الأخير في ليبيا مجرد بحث عن دور مقابلٍ للتأثير الغربي، وهو دور تستطيع حكومة الوفاق وحليفها التركي ضمانه لروسيا بعيدا عن حفتر وحلفائه.
وبهذه الخطوات من القيادة التركية والحكومة الشرعية الليبية يكون الطرفان قد وجَّها دفَّة السفينة المتوسطية لصالح شعبيهما وشعوب المنطقة، وجنَّباها خطر الأمواج المتلاطمة، التي يركب متنَـها اليوم كلُّ غادرٍ مغامرٍ، وكلُّ عدوٍّ طارقٍ.
هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!
مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس