د. علي حسين باكير - تلفزيون سوريا
نشرت وكالة الأنباء الفرنسية صوراً كانت قد التقطتها في ٢٨ آب الماضي تشير إلى وصول جنود يونانيين إلى جزيرة ميس اليونانية التي تبعد حوالي ميلاً واحداً فقط عن أقرب نقطة على الشاطئ التركي وذلك باستخدام سفينة مدنيّة تحمّل سيّاًحاً على متنها. تحمل هذه الخطوة في طيّاتها تصعيداً خطيراً وهي تعبّر بشكل واضح عن سياسة حافة الهاوية التي تتّبعها اليونان والتي تتجاوز التصعيد السياسي والدبلوماسي إلى تصعيد ميداني.
تسليح اليونان لجزرها قبالة الساحل التركي هو حلقة من سلسلة طويلة من الخلافات بين البلدين تشمل المسألة القبرصية، النزاع شرق المتوسط، النزاع في بحر إيجة، النزاع على حدود بحرية وجوّية أيضاً، استضافة اليونان بعض المتورطين في الانقلاب العسكري الذي جرى في تموز ٢٠١٦ ممّن فروا إليها وتقديم الحماية لهم، حقوق الأقلية المسلمة والتركية في اليونان..الخ.
وتحكم وضعية الجزر اليونانية المقابلة للساحل التركي عدّة اتفاقيات دولية تنص على كونها مناطق منزوعة السلاح وعلى رأسها اتفاقية لندن ١٩١٣ واتفاقية لوزان ١٩٢٣ واتفاقية باريس ١٩٤٧، لكن اليونان تعمل بشكل مستمر على تقويض هذه الاتفاقيات واستفزاز الجانب التركي من خلال التسليح التدريجي لهذه الجزر.
وكان موضوع تسليح اليونان للجزر قد بدأ يأخذ حيّزاً أساسياً في قائمة المشكلات بين أنقرة وأثينا منذ الستينيات من القرن الماضي، وكاد أن يؤدي إلى حرب بينهما في العام ١٩٩٦ حينما اختلف الطرفان على تبعية إحدى الجزر غير المأهولة (إيسلت)، وانتهى الخلاف حينها بمقتل عدد من الجنود اليونانيين وتدخل الناتو لضبط الوضع دون تغيير شيء على الأرض.
في كانون الثاني من هذا العام حذّر وزير الدفاع خلوصي أكار من أنّ اليونان سلّحت ١٦ من أصل ٢٣ من هذه الجزر في انتهاك واضح للقانون الدولي والقوانين التي تحكم وضع هذه الجزر. تأكيد اليونان اليوم على تسليح الجزر اليونانية القريبة من الساحل التركي هو أمر مستفز لأبعد الحدود بالنسبة إلى الأتراك ويُنذر بإمكانية خروج الوضع عن السيطرة لاسيما مع وجود أطراف غير أصيلة في الأزمة شرق البحر المتوسط تعمل على تغذية الصراع ودفع اليونان إلى حسابات خاطئة، كفرنسا والإمارات على سبيل المثال.
تقليدياً، تقوم السياسة اليونانية على إحداث توتر مضبوط يهدف إلى جر الأوروبيين خلفهم لتقديم الدعم السياسي والدبلوماسي لأثينا وإجبار تركيا على التفاوض من موقع أضعف، أو من أجل بناء وقائع على الأرض بمعزل عن رأي ومصلحة الجانب التركي، وهذا ما كان حصل بالفعل خلال العقود القليلة الماضية. لقد أدّت هذه السياسة إلى تقويض حقوق مصالح تركيا بشكل مستمر تارة من خلال قبرص وطوراً من خلال الادعاءات المتضخّمة لليونان شرق البحر المتوسط وفي بحر إيجة.
ما نشهده اليوم من نزاع متفاقم شرق البحر المتوسط يعود في الأساس إلى الخطوات الأحادية التي قامت بها قبرص واليونان بدعم لا محدود من الاتحاد الأوروبي منذ العام ٢٠٠٣ على أقل تقدير. وغالباً ما يتجاهل الأخير هذه الحقيقة ليبدأ بتأريخ الأزمة انطلاقاً من الاتفاق التركي- الليبي نهاية العام ٢٠١٩.
علاوة على ذلك، يتجاهل المجتمع الدولي الانتهاكات اليونانية الفاضحة للقانون الدولي في مقاربته للأزمة لاسيما فيما يتعلق بتسليح اليونان للجزر القريبة من تركيا في بحر إيجة، وزيادة جرفها القاري من ٦ إلى ١٢ ميلاً في البحر الأيوني واستمرارها في استخدام مسافة ١٠ ميلات جواً بدلا من ٦ ميلات.
يدفع هذا التجاهل أثينا إلى التصعيد المستمر بدلاً من الجلوس إلى طاولة المفاوضات. أولى خطوات التصعيد اليونانيّة في الأزمة الحالية كانت قد بدأت مع توقيع أثينا اتفاقية بحرية مع مصر الشهر الماضي في الوقت الذي كانت فيه ألمانيا تحاول أن توفّر الأرضية اللازمة لجمع أنقرة وأثينا على طاولة المفاوضات. هذه الخطوة تلاها خطوات أخرى تضمّنت محاولات التحرّش بسفينة المسح التركية "أوروتش رئيس" والإعلان عن إجراء مناورات عسكرية بدعم فرنسي، ثم تبعتها خطوة أخرى بتصديق الاتفاق عبر البرلمان وأخيراً إرسال قوات عسكرية إلى الجزر اليونانية قبالة الساحل التركي.
بغض النظر عمّا إذا كانت الخطوات اليونانية تهدف إلى تحسين أوراق التفاوض قبل الجلوس إلى طاولة المفاوضات أو حتى تقويض محاولات الوساطة فإنها تنطوي على مغامرة عالية تجعل منها بمثابة مقامرة لا يمكن توقّع نتائجها لا سيما إذا ما تمّ إغلاق باب الحوار من خلال التصعيد أو من خلال تنفيذ الاتحاد الأوروبي تهديداته بفرض عقوبات على أنقرة، الأمر الذي سيعني أنّه لم يعد أمام تركيا سوى خيار الحرب للحفاظ على حقوقها في هذه الحالة.
هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!
مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس