احسان الفقيه - خاص ترك برس
جلست زهراء على ذلك المكتب في إحدى الدوائر الرسمية، وأمامها عدد من الأوراق التي تنتظر توقيعها، وذلك بعد أن تسلّمت منصب نائب والي مدينة كيليس "وداد يلماظ".
إلى هنا لا يبدو المشهد غريبا، لكنه يبدأ في إثارة دهشة العالم بأسره –عدا الأتراك الذين ألِفوه-، عندما يعلم القارئ أن "زهراء" طفلة صغيرة في عمر الزهور، وأنها تسلمت ذلك المنصب بصورة رمزية لمدة يوم واحد، في إطار فعاليات الاحتفال التركي بعيد 23 أبريل للسيادة الوطنية والطفولة.
وفي هذا الاحتفال يَخْلُف الأطفالُ كبارَ القادة والزعماء، حيث يقوم رئيس الجمهورية ورئيس الوزراء وأعضاء البرلمان وحكام الولايات وقادة الشرطة وعدد من المسؤولين، بترك مقاعدهم ليجلس الأطفال عليها ليوم واحد.
ولكن ما يثير دهشة الجميع حقا، أن الطفلة "زهراء تيت" ليست من أبناء تركيا...
"زهراء" زهرة سورية اجتثّ طاغية الشام حلمها وجذورها...
حُرمت زهراء من أحضان والدها..
وكشأن الآلاف من أطفال سوريا، وجدوا أرضا تفتح الأبواب على مصراعيها لاستقبالهم، وشعبا يقتسم الرغيف معهم، ويستلهم من ماضي الأسلاف مفهوم "المهاجرين والأنصار".
وجدوا زعيما تتدفق فيه عاطفة الإيمان والإنسانية يبث الأمل في نفوس نالت منها الأهوال، يخاطبهم: " لا تتوقفوا عن الحلم بالبحار الأكثر زرقة، حتى ولو كنتم في وسط الصحراء. إننا نريد أن نرى الأمل في أعينكم، وليس الخوف".
*لكن زهراء كشأن كل اللاجئين السوريين يضطرب قلبها، فليس الأمر في تركيا على نحو واحد، هناك من يلفظ وجودها، ويعتبرها عبئًا، ويُطلق وعوده بإعادة كل اللاجئين السوريين إلى أرض الخوف إذا ما تم له الأمر في تركيا.
*أحد هؤلاء المتوعّدين هو رئيس حزب الشعب الجمهوري وأكبر أحزاب المعارضة التركية "كمال كليتشدار أوغلو"، والذي يعتزم حال فوزهم بالانتخابات بأنه سيقوم بإعادة السوريين لبلادهم، حيث قال: "سنعيد أخوتنا السوريين لبلادهم. سنقول لهم لا تؤاخذونا، ارجعوا لبلادكم".
ومن أجل ذلك تتعلق عيون السوريين بالانتخابات التركية القادمة، التي يخوضها حزب العدالة والتنمية الحاكم.
وجميعنا يعلم أن العدالة والتنمية يطمح في تحقيق الفوز بشكل يمكنه من المضي في مشروعه النهضوي من أجل تركيا الجديدة التي يخطط الحزب لدخولها في نادي العظماء العشرة بحلول 2023، وتلك المسيرة تُحتّم الحصول على أغلبية كاسحة في مقاعد البرلمان لتمرير النظام الرئاسي والدستور الجديد.
*لكن المعارضة وخاصة حزبي الشعب والشعوب، تسعى لعرقلة مسيرة العدالة والتنمية ورحيل السلطان كما يطلقون على أردوغان، وهو الأمر الذي يثير مخاوف الكثيرين من العرب، والذين يرون في غياب العدالة والتنمية خسارة فادحة للعرب، لماذا؟
رأت الدول العربية في تركيا قوة كبيرة تمثل فارقا في التعامل مع المشروع الإيراني الذي يؤرق معظم الدول العربية وخاصة دول مجلس التعاون الخليجي، وذلك بعد التحول الإيجابي في العلاقات العربية التركية منذ تولي حزب العدالة والتنمية زمام الأمور في 2002م.
كما تنظر الشعوب العربية وخاصة الفلسطينية إلى تركيا بأنها تشكل داعما قويا لها وذلك بعد خروج العلاقات التركية الإسرائيلية عن نسق التواؤم، حيث أن العلاقات بين تركيا وإسرائيل تعد أبرز العوامل التي تشكل النظرة العربية تجاه تركيا.
ومن ناحية أخرى فإن تركيا في الآونة الأخيرة تحولت إلى قبلة للمضطهدين والفارين من سطوة البطش السياسي وسوء الأوضاع في مجال الحريات، بالإضافة إلى التفاعل التركي البارز في التعامل مع قضايا اللاجئين وبخاصة الشعب السوري.
*هذه المسائل تقودنا إلى قضية أخرى أعمق: هل العلاقات العربية التركية مرهونة ببقاء حزب العدالة والتنمية وفريق أردوغان؟
بمعنى آخر: ماذا لو رحل حزب العدالة والتنمية؟
هل ستعود العلاقات العربية التركية إلى حالة الركود والجمود والفتور مرة أخرى؟
*قبل أن نحاول التحليق حول الإجابة على هذا التساؤل، أشير إلى أن وجود حزب العدالة والتنمية خارج منظومة الحكم ليس من المستحيلات في عالم السياسة، والتي يخضع مسارها للمتغيرات والمُنحنيات والمُنعطفات التي تتبدل بها الأوضاع في الدولة.
لكن بالنظر إلى سياسات حزب العدالة والتنمية وتركيزها على الجانب الاقتصادي والحريات لتحقيق حياة كريمة للمواطن ونجاحها في ذلك، سيكون من الصعب التنبؤ بسقوط الحزب في العقد المقبل على الأقل، رغم التحديات الداخلية والخارجية التي تواجهها الحكومة.
وأضف إلى البعد الاقتصادي وجانب الحريات، أن أردوغان وفريقه استطاعوا أن يجعلوا من تركيا دولة مركزية إقليميا، وصهروا الشعب التركي في بوتقة التراث كقوة دافعة لنهضة تركية.
فأرى أن النجاح في إدارة هذين الملفين يبعد الحزب عن مرمى احتمالات الإقصاء، كما أن الفشل فيه يخضع لعنصر الزمن بعيدا عن السقوط المُباغت المدوي.
*ومن ناحية أخرى، أرى أنه من المستحيل إقصاء الحزب بصفة كاملة عن الحياة السياسية بعد كل هذه الإنجازات على كافة الأصعدة خلال 13 عاما، فمن المؤكد أن شريحة كبيرة من الشعب التركي ستظل وراء الحزب حتى ولو لم يشكل الحكومة، فسيبقى حتما إحدى قوى المعارضة المؤثرة التي تسهم في صناعة القرار.
*لكن دعونا نجيب على السؤال الذي طرحناه:
ماذا لو تولّت المعارضة زمام الأمور في تركيا ورحل حزب العدالة والتنمية، هل ستُولي تركيا ظهرها للعالم العربي لترتمي في أحضان الغرب مرة أخرى؟
من وجهة نظري، حزب العدالة والتنمية ليس الضامن الوحيد لبقاء العلاقات التركية العربية في صورتها الحيوية التي وصلت إليها، فهناك عاملان بارزان لا يمكن التغاضي عنهما في هذا الشأن:
العامل الأول: الشعب التركي:
الشعب التركي يرتبط بالدول العربية جغرافيا وتاريخيا وثقافيا، وهذا الارتباط لا يمكن تفكيكه في ظل اصطباغ الشعب التركي بالتراث العثماني، والذي بلغ أوجُه في ظل حكم العدالة والتنمية، فأصبح الفكرة المركزية في المشروع النهضوي للحزب.
كما أن الشعب التركي -بخلاف ما كان يعتقد الكثير من المتُابعين؛ تسري فيه العاطفة الدينية، بدليل أنه في ظل هيمنة العلمانية على مدى عقود، كانت الفكرة الإسلامية المتبلورة في صورة دعوة إصلاحية (النورسي كمثال)، أو في حزب سياسي (أربكان كمثال)، كانت تجد التفافا جماهيريا.
*هذه النزعة الدينية واستحضار التراث لدى الشعب التركي ستجعله دائما في ميل إلى علاقات جيدة مع العرب.
فهذا الشعب كان في 2003م هو بطل ملحمة الضغط على البرلمان للتصويت ضد المشاركة في الحرب على العراق.
وهذا الشعب هو الذي حمل حزب العدالة والتنمية على الأعناق رغم سطوة المؤسسة العسكرية الأتاتوركية، وتنفُّذ الأحزاب والقوى العلمانية، فحزب العدالة والتنمية بدون هذه الحاضنة الشعبية لم يكن ليواجه الآلة العلمانية المتوحّشة.
الشعب التركي شعب واعٍ، وجد نفسه في ظل مساحات الحرية الواسعة التي حصل عليها في ظل حكم العدالة والتنمية، ومارس حقه في التعبير عن رأيه وتفاعل بقوة مع الملفات الخارجية للدولة.
ولعل القارئ يذكر موقف الشباب التركي يوم أن قام حزب السعادة (أحد وارثي حزب أربكان) بدعوة أحمدي نجاد الرئيس الإيراني السابق.
ثار الشباب التركي وهتفوا لرحيل نجاد لأن يده مغموسة في دماء إخوانهم السوريين.
فنحن إذن أمام شعب له نزعته وعاطفته الدينية، ويمتلك وعيا سياسيا كافيا، ومارس حرياته المشروعه، وهذا في حد ذاته كفيل بأن يسهم ذلك الشعب في تشكيل السياسة الخارجية لبلاده.
العامل الثاني: تعزيز سلطة المدنيين
فقد ظهر توجه حزب العدالة والتنمية في أنه يرمي لترويض الجنرالات وإعادة المؤسسة العسكري لثنكناتها وترك مجال الحياة السياسية الذي اقتحمته على مدى عقود للحفاظ على المبادئ الأتاتوركية.
ولعل من أحد أهم الأسباب التي دفعت الحزب للسعي إلى الانضمام للاتحاد الأوربي، وضْع تركيا في فلك الديموقراطية الأوروبية المؤسسة على نبذ العسكر من الحياة السياسية وكفالة حرية التدين، وهو ما يعتبر ضربة قوية للكيان العلماني الذي سعى لتوحش العسكر في سلطاته ومحاربة أشكال التدين.
وقد نجح أردوغان وفريقه بالفعل في إعادة الجيش لثكناته، عن طريق التعديلات الدستورية التي وضعت الجيش تحت سلطة الحكم المدني ووقوفه للمحاكمة أمام القضاء على جرائمه، الأمر الذي عزز من سلطة المدنيين.
*هذه القوة المدنية لا شك أنها ستقف حجر عثرة أمام عودة النفوذ العسكري في الحياة السياسية حتى وإن كان حزب العدالة والتنمية خارج منظومة الحكم.
وللقارئ أن يسأل: وما علاقة ذلك بالعلاقات العربية التركية ومصيرها؟
أقول: إن قوى المعارضة بالأساس تفتقر إلى البعد الواقعي، فهي أحزاب فشلت على مدى عقود من تلبية طموحات الشعب، ولا مكان لها سوى في المؤتمرات والاجتماعات ولا بضاعة لها سوى الأطروحات والتنظير دون تقديم ما ينفع الشعب التركي في الواقع، بخلاف العدالة والتنمية الذي يصنع النموذج ثم يطرحه للجماهير.
هذه الأحزاب العلمانية لن تُحكم قبضتها على البلاد وتهيمن مبادئها الأتاتوركية - التي يعدّ الانسلاخ من كلّ ما هو اسلاميّ والجنوح نحو الغرب والنأي عن الساحة العربية أحد مرتكزاتها- على مناحي الحياة التركية.. لن تعود إلا في ظل عودة العسكر.
وعلى تلك الرؤية ارتسم تفاؤلي بأن العلاقات العربية والتركية لن تعود إلى سابق عهدها من الركود والجمود، فتركيا بحاجة إلى العرب، والعرب بحاجة إلى تركيا، وحينئذ يفرح الشرفاء والمتطلّعون لإقامة الحق والعدل، ويستبشر الضعفاء ممن تمّ التنكيل بهم في بلادهم ....
ويسكن قلب زهراء....
هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!
مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس