أ. د. أمر الله ايشلر - وكالة أنباء تركيا
مقال نشر في إيلاف
الخلفية التاريخية ومجريات الأحداث:
لكي نفهم جيدا أحداث الخاصة بالأرمن لا بد أن نعلم ماذا حدث قبل 24 نيسان/أبريل عام 1915.
فعام 1914 كان العام الذي أعِدت فيه نظريات وخطط من قبل الدول الإمبريالية لإزالة الدولة العثمانية المسماة آنذاك بـ”الرجل المريض” من مشهد التاريخ.
وكانت لهذا المريض الذي سيموت قريبا تركته التي يعملون على تقسيمها، فالقوى الإمبريالية كانت بحاجة إلى عناصر جانبية مساعدة للإطاحة بهذا المريض من الداخل.
فكان ذلك العنصر المساعد لتحقيق هذه الغاية، عصابات الأرمن التي كانت تحلم آنذاك بإقامة دولة أرمنية مستقلة، حيث أصبحت الفرصة سانحة بعد بدء الحرب العالمية الأولى لتحقيق مآرب الأرمن.
وفي الوقت الذي كانت فيه جيوش الدولة العثمانية تحارب على عدة جبهات، حارب الأرمن على جبهة القوقاز إلى جوار الروس ضد جيش الدولة العثمانية، حيث قاموا بالتمرد والعصيان داخل الوطن ما أشغل قوات الأمن بالأحداث الداخلية.
يصل عدد المتطوعين المسلحين الأرمن من رعايا الدولة العثمانية الذين حاربوا ضد دولتهم إلى جوار الروس، نحو 10 آلاف، وإضافة إلى هؤلاء المتطوعين تُقدّر مصادر أجنبية عدد المحاربين الأرمن النظاميين داخل الجيش الروسي بـ 150 ألف مقاتل، والبعض يقدّر هذا العدد بـ 300 ألف.
وكما أقر بعض الكتاب الأرمن، فإن الأرمن أصبحوا طرفا بل حليفا صغيرا في صفوف الحلفاء في الحرب العالمية الأولى، خاصة ضد الدولة العثمانية.
لم يكتف هؤلاء بتقديم مساعدات للروس للاستيلاء على مدينة “وان” (التي تقع اليوم جنوب شرقي تركيا)، بل قاموا بقتل عشرات الآلاف من المسلمين المدنيين، من الشيوخ والنساء والأطفال.
والوثائق العثمانية تثبت أن الأرمن قاموا في تلك الفترة بمجزرة حقيقية وإبادة ممنهجة بلغ عدد ضحاياها أكثر من نصف مليون مسلم من الأتراك والأكراد والعرب، من رعايا الدولة العثمانية آنذاك.
الحكومة العثمانية في ذلك الوقت حذرت كلا من البطريرك والنواب ووجهاء وأعيان الأرمن، ولكن من دون جدوى، فتم في 24 نيسان/أبريل 1915 وهو اليوم الذي أعلنه الأرمن بعد ذلك بـ”يوم الإبادة”، تم حظر جماعات أرمنيّة وألقي القبض على 235 من قيادات الأرمن بتهمة قيامهم بأعمال تدميرية وإرهابية ضد الدولة والمواطنين الأبرياء.
بعد ذلم تم إرسال هؤلاء إلى سجون جانقيري وآياش قرب مدينة أنقرة (العاصمة التركية حاليا)، وقامت الحكومة العثمانية بعد ذلك بترحيل رعاياها الأرمن المتواجدين في الأناضول إلى ولاية حلب (اليوم تقع في الشمال السوري).
عدد الأرمن في الدولة العثمانية
معظم الإحصائيات تقدر عدد رعايا الدولة العثمانية من الأرمن بنحو مليون وثلاثمائة ألف أرمني.
وهنا لا بد أن نطرح السؤال التالي: ماذا حدث لهم؟ وماذا كان مصيرهم؟
وفقا لأرقام مفوضية اللاجئين في جبهة القفقاز الروسية، انتقل إلى الأراضي الروسية 337 ألف أرمني، أما المجلة الأكاديمية الأرمنية التي كانت تنشر في روسيا، فقد أكّدت في عددها الصادر بـ 26 شباط/فبراير 1917 أن عدد الأرمن المهاجرين إلى الأراضي الروسيّة بلغ 360 ألفا.
حينما نضيف إلى هذا الرقم عدد الأرمن الذين هاجروا إلى كل من روسيا وإيران قبل الحرب العالمية الأولى فإن مجموع المهاجرين الأرمن يبلغ 500 ألف.
أما عدد الأرمن الذين تم ترحيلهم من قبل الحكومة العثمانية عام 1915 إلى ولاية حلب آنذاك، فيقدر ما بين 450-500 ألف شخص، معظمهم هاجروا بعد ذلك إلى دول أجنبية، وفي الوقت نفسه عاش خلال الحرب في تركيا ما يقرب 300 ألف أرمني.
ضحايا الأرمن
معظم القتلى من الأرمن سقطوا على الجبهات الروسية أثناء محاربتهم ضد الدولة العثمانية.
وكذلك مات عشرات الآلاف من الأرمن خلال الحرب بسبب الأمراض المعدية والبرد القارس والجوع، شأنهم في ذلك شأن باقي الضحايا من رعايا الدولة العثمانية يومها.
وعلى سبيل المثال يبلغ عدد الضحايا الأرمن داخل الأراضي الروسية وحدها بسبب الظروف الصعبة 40 ألف.
أما عدد الأرمن الذين قتلوا من جراء اعتداء بعض العشائر فهو نحو 10 آلاف أرمني.
وبكلمة واحدة، بلغ عدد ضحايا الأرمن بشكل إجمالي نحو 150 ألف أرمني، وكما أفاد رجال الاستخبارات الروس فإن الأرمن يضيفون إلى هذا الرقم صفرا آخر ليرتفع ضحاياهم إلى 1.5 مليون.
وقد سلم بهذه الحقيقة الناشر الأرمني أرشاق جوبانيان حيث قال: “لا محالة من المبالغات في مثل هذه الأزمات، وليس من الصواب أن ندعي أنه تم إبادة الأرمن في تركيا”.
وشهد شاهد من عصره
هنا لا بد وأن نستمع إلى ما قاله مصطفى كامل باشا المصري في كتابه المسمى بـ”المسألة الشرقية” الذي نشر في مصر عام 1909.
خُصص في الكتاب فصل للمسألة الأرمنية في الجزء الثاني منه (ص 176-250)، حيث يلقي اللوم على إنكلترا في كل ما حدث ويشرح نواياها السيئة قائلا “إن انكلترا تريد هدم السلطنة العثمانية وتقسيم الدولة العلية ليسهل عليها امتلاك مصر وبلاد العرب وجعل خليفة الاسلام تحت حمايتها وآلة في يدها”.
كانت انكلترا بحاجة إلى عنصر داخلي لتحقيق مآربها، فكانت الضحية هم الأرمن، إذ يقول مصطفى كامل باشا في هذا الشأن ما نصه “ورأى العالم هذه الطائفة التي كانت تعيش في بحبوحة السعادة والرفاهية والتي كان يسميها العثمانيون بالملة الصادقة والتي لها في مناصب الحكومة والادارات وفي التجارة والصناعة الشأن الأول تثور ضد الدولة العلية”.
ويقول عن دسائس الإنكليز في مكان آخر من الكتاب “ولكن إنكلترا اشتهرت أنها لا تقف أمام عائق لبلوغ غايتها وإدراك بغيتها فقد سلّحت الأرمن البروتستانت وأعطتهم التعليمات بإحداث هيجان عام في كافة أنحاء المملكة العثمانية والاعتداء على المسلمين في كل بلدة عثمانية ووعدتهم بالمساعدة والتدخل وإيجاد مملكة أرمنية مستقلة.”
وفيما يخص قلب الحقائق والقيام بالدعاية ضد الدولة العثمانية يقول أيضا “الحقائق تنشر في أوروبا مقلوبة وطالما اعتدى المسيحيون على المسلمين ادعت جرائد أوروبا أن المسلمين هم المعتدون، وأنهم وحدهم المقترفون لكل الآثام، وكان الإنكليز يعلمون أيضا أن تداخل أوروبا في مسائل تركيا وتحزبها ضدها يملآن قلوب المسلمين غلا وكراهة ضد المسيحيين ويشجعان المسيحيين على الاستمرار في خطتهم الثورية فيزداد بذلك البلاء ويعم الدمار والفناء وتنزل المصائب على تركيا وتحل البلايا بالسلطنة العثمانية.”
وينقل فيما يخص فبركة الأحداث عن الكاتب الفرنسي الفيكونت دي كورسون ما نصه “والواقف على مسألة الأرمن بحذافيرها يتحقق لديه أنه ما من حادثة وقعت في البلاد التي اصطلح الانكليز على تسميتها بأرمينيا الا وتكون الجرائد الانكليزية في لندن قد أنبأت بها قبل حدوثها بزمن طويل جدا فتراها تبين لقرائها نوع الحادثة التي ستقع ومكان وتاريخ وقوعها كما فعلت في حادثة وادي (تالورى) ولا يجدر بالعاقل أن يتخذ هذا الأنباء بالمستقبل ضربا من ضروب التبصر الذي امتازت به الجرائد الانكليزية بل لا بد أن يذهب في تفسير معماه إلى ما فسره به من قال أن الثورة الأرمنية أشبه شيء ببضاعة جهزها الانكليز في مجتمعاتهم السياسية وأخذوا في تصديرها حسب الطلبات إلى جهات معلومة”.
في حين كانت معظم الصحف الإنكليزية تنشر آنذاك أخبارا مصطنعة ومفبركة وكاذبة ضد الدولة العثمانية، كانت هناك بعض الصحف المنصفة حيث نشرت جريدة “الغلوب” في بعض أعدادها الصادرة في شهر كانون الثاني/يناير عام 1895 بالحرف الواحد ما يلي “إن الفظائع التي أسند إلى الأتراك اقترافها ضد الأرمن هي أكبر ما غشت به الجرائد الانكليزية الرأي العام الانكليزي” وأثبت الكاتب أن عقلاء الأرمن سخطوا على انكلترا واعتبروها عدوتهم الحقيقية التي ألقت بهم في مهواة الهلاك.
الخلاصة
إذن، ادعاء الإبادة ضد الأرمن أكذوبة لم يشهد التاريخ مثلها، حيث إن الأرمن تواطؤوا مع الإنكليز بدرجة أولى، وحاربوا إلى جوار الروس ضد دولتهم ولم يكتفوا بذلك بل قاموا بالقتل الجماعي والإبادة الممنهجة في حق جيرانهم المسلمين الأبرياء من الأطفال والشيوخ والنساء في الوقت الذي كان رجالهم وشبابهم يحاربون في عدة جبهات أيام الحرب العالمية الأولى.
حال الأرمن أشبه بحال من ضرب وبكى وكذب واشتكى، فبدل أن يتعلموا مما لحق بهم ويحاسبوا من أغراهم من الإنكليز والروس والفرنسيين ويلقون اللوم عليهم، ومن ثم يتأسفون على ما قاموا به بحق جيرانهم الأتراك، وبدل أن يحاولوا تأسيس علاقة جيدة مع تركيا، مازالوا يتواطؤون مع من ألحقوا بهم كل هذا الضرر ويسعون إلى قلب الحقائق ويدّعون الإبادة متلقين دعما سياسيا ممن أغراهم في الماضي، وأمام هذا الواقع لا يسعنا إلا مناداة عقلاء الأرمن للتدخل من أجل إصلاح ما أفسده الدهر.
هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!
مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس