د. علي محمد الصلابي - خاص ترك برس
أبدى نظام الملك الطوسي اهتماماً كبيراً بوسائل تحقيق أهداف المدارس النظامية؛ فاختار الموقع الجغرافي الذي يمكن أن تثمر فيه، والمدرسين المميزين، وأظهر ذكاء ملحوظاً في تحديد المنهج العلمي الذي ستسير عليه، ثم بذل أقصى جهوده لتوفير الإمكانات المادية التي تعين هذه المدارس على العطاء الفكري السخي.
1 ـ الأماكن:
فمن ناحية الأماكن التي أنشئت النظاميات فيها، يقول السبكي عن نظام الملك: إنه بنى مدرسة ببغداد، ومدرسة ببلخ، ومدرسة بنيسابور، ومدرسة بهراة، ومدرسة بأصبهان، ومدرسة بالبصرة، ومدرسة بمرو، ومدرسة بامل طبرستان، ومدرسة بالموصل (طبقات الشافعية ، ص 180) هذه إذن هي أمهات المدارس النظامية التي أنشئت في المشرق الإسلامي، ويتضح من توزيعها الجغرافي أن معظمها أنشئ إما في بعض المدن التي تحتل مركز القيادة والتوجيه الفكري، كبغداد، وأصفهان، حيث كانت الأولى عاصمة للخلافة العباسية السنية، ويتركز فيها عدد كبير من المفكرين السنيين أيضاً.
والثانية: كانت عاصمة للسلطنة السلجوقية في عهد ألب أرسلان، وملكشاه (عصر نظام الملك) ، وإما في بعض المناطق التي كانت مركزاً لتجمع شيعي في تلك الفترة كالبصرة ونيسابور، وطبرستان، وخوزستان، والجزيرة الفراتية (التاريخ السياسي والفكري ، ص 180)
إن هذا التوزيع الجغرافي يشير بوضوح إلى أن وضع المدارس النظامية في الأماكن السابقة، لم يأت اعتباطاً، وإنما كان أمراً مقصوداً ومدروساً حتى تقوم بدورها في محاربة الفكر الشيعي في هذه المناطق، وتفتح الطريق أمام غلبة المذهب السني.
2 ـ اختيار الأساتذة والعلماء:
وإلى جانب الاختيار المدروس لأماكن المدارس النظامية، فإنه تم اختيار أساتذتها بعناية تامة، بحيث كانوا أعلام عصرهم في علوم الشريعة، ويشير العماد الأصفهاني إلى دقة نظام الملك في هذه الناحية، فيقول عنه: وكان بابه مجمع الفضلاء، وملجأ العلماء، وكان نافذاً بصيراً ينقب عن أحوال كلٍّ منهم، فمن تفرس فيه صلاحية الولاية ولاه..، ومن رأى الانتفاع بعلمه أغناه، ورتب له ما يكفيه حتى ينقطع إلى إفادة العلمَ ونشره وتدريسه، وربما سيره إلى إقليم خال من العلم؛ ليحلِّيَ به عاطله، ويحيي به حقه، ويميت به باطله (تاريخ آل سلجوق ، ص 56 ، 57)
وفي كثير من الأحيان كان نظام الملك لا يعين الواحد منهم إلا بعد أن يستمع إليه، ويثق في كفاءته، حدث ذلك مع الإمام الغزالي الذي كان يتفقه على إمام الحرمين في نظامية نيسابور، فلما مات أستاذه في عام (478هـ) قصد مجلس نظام الملك، وكان: مجمع أهل العلم، وملاذهم، فناظر الأئمة العلماء في مجلسه، وقهر الخصوم، وظهر كلامه عليهم، واعترفوا بفضله، وتولاه الصاحب (نظام الملك) بالتعظيم، والتبجيل، وولاه تدريس مدرسته ببغداد (طبقات الشافعية (4/103)
وفعل مثل ذلك مع أبي بكر محمد بن ثابت الخُجندي (ت 496هـ) الذي سمعه نظام الملك؛ وهو يعظ بمرو، فأعجب به، وعرف محله من الفقه والعلم، فحمله إلى أصبهان، وعينه مدرساً بمدرستها؛ فنال جاها عريضاً. (التاريخ السياسي والفكري، ص 181)
كما استدعى الشريف العلوي الدبوسي (ت 483هـ) ، ليدرس بنظامية بغداد، لأنه كان بارعاً في الفقه والجدل. وفي بعض الأحيان كان نظام الملك يكتشف الأستاذ أولاً، فيبني له مدرسة باسمه ؛ حدث هذا مع الشيخ أبي إسحاق الشيرازي (ت 476هـ) الذي بنى له نظامية بغداد، ومع إمام الحرمين الذي بنى له نظامية نيسابور. وكان نظام الملك يحوط هؤلاء العلماء برعايته، ويمدهم بتأييده، حتى احتلوا منزلة عليا في البلاد التي حلوا بها، وصار لبعضهم وجاهة في بلاط السلطان كأبي إسحاق الشيرازي الذي اختاره الخليفة المقتدى في عام ( 475هـ )، ليحمل شكواه من عميد العراق أبي الفتح بن أبي الليث إلى السلطان ملكشاه ووزيره نظام
الملك، فأكرماه وأجيب إلى جميع ما التمسه، وجرى بينه وبين إمام الحرمين مدرس نظامية نيسابور مناظرة، بحضرة نظام الملك، ولما عاد أبو إسحاق إلى بغداد أهين العميد، ورفعت يده عن جميع ما يتعلق بالخليفة. (طبقات الشافعية 3/91 ـ 92)
3 ـ تحديد منهج الدراسة:
كما عني نظام الملك باختيار الأساتذة الأكفاء لمدارسه، فإنه حدَّد منهج الدراسة التي ستسير عليه هذه المدارس، ويتضح هذا المنهج مما ورد في وثيقة نظامية ببغداد من أنها وقف على أصحاب الشافعي أصلاً، وفرعاً، وكذلك شرط في المدرس الذي يكون بها، والواعظ الذي يعظ بها، ومتولي الكتب (المنتظم 9/66) . وينقل الأستاذ سعيد نفيسي عن المفروخي، مؤلف كتاب (محاسن أصفهان) قوله: إن نظام الملك أمر بإبتناء مدرسة تجاور جامع أصفهان للفقهاء الشافعية، فابتنيت كأحسن ما رئي هيئة، وهيكلاً، وصنعة، وعملاً، ومحلاًّ، ومنزلاً.
وممّا لا شك فيه بأنَّ تراث الإمام الشافعي في الفقه، والأصول، والعقائد، وسيرته الذاتية، كان لها أثر على تلك المدارس، وليس في الفقه فقط المتعلق بالأحكام الشرعية العملية، وقد اعتدَّ بعض الباحثين بالقول بأن معظم الشافعية في هذه الفترة، يتبعون في أصول العقيدة مذهب الإمام الأشعري، كما أن أبا الحسن الأشعري في مجال الاعتقاد مرَّ بأطوار واستقر في آخر حياته على مذهب السلف والأشاعرة من أهل السنة والجماعة، ولذلك سنبين بإذن الله تعالى شيئاً من سيرة الإمام الشافعي، وأبي الحسن الأشعري اللذين على تراثهما العلمي قامت المدارس النظامية، والتي كانت تخرِّج العلماء الذين يتبنون عقيدة الدولة السلجوقية.
كان اهتمام المدارس النظامية قد انصرف إلى التركيز على مادتين أساسيتين هما: الفقه على المذهب الشافعي، وأصول العقيدة على مذهب الأشعري، وإلى جانب ذلك: كانت تدرس بعض المواد كالحديث، والنحو ، وعلمي اللغة والأدب ، ويشير ابن الجوزي إلى وقفية نظام الملك الخاصة بمدرسة بغداد : والتي نصت
على أن يكون في المدرسة نحويٌّ يدرس العربية، وقام بتدريس الأدب في نظامية بغداد أبو زكريا التبريزي، شارح ديوان الحماسة (ت502هـ) ، ثم خلفه في التدريس العالم اللغوي المشهور أبو منصور الجواليقي (ت 540هـ) ، وكانت المدرسة الأشعرية السنية مؤهلة لمواجهة الشيعة فكرياً، وهم الذين تسلحوا بدراسة الفلسفات المختلفة، واستخدموا الجدل في الدفاع عن عقائدهم، وأخذوا عن المعتزلة معظم أصولهم، فأصبحت تشكل لبنات هامة في منهجهم الكلامي، لقد كانت من الفئات القادرة على الجهاد الدعوي في هذا الميدان الفكري، وهم الذين استوعبرا تراث أبي الحسن الأشعري، ولذلك نقول: إن نظام الملك وفق تماماً في اختيار المنهج الملائم لتحقيق الهدف الذي سعى إليه (التاريخ السياسي والفكري، ص 185). ويأتي تفصيل ذلك في محله بإذن الله.
4 ـ حله للمشاكل:
كان النظام حريصاً على أن تؤدي المدارس التي بناها رسالتها المنوطة بها، فعندما أرسل إليه أبو الحسن محمد بن علي الواسطي الفقيه الشافعي أبياتاً من الشعر يستحثه على المسارعة للقضاء على الفتن، التي حدثت بين الحنابلة، والأشاعرة، قام نظام الملك وقضى على الفتنة، ومما قاله أبو الحسن الواسطي من الشعر:
يا نظامَ الملكِ قد حلّ ببغداد النظامُ
وابنك القاطنُ فيها مستهانٌ مستضامُ
وبها أودى قتلى غلامٌ وغلامُ
والذي منهم تبقَّى سالماً فيه سهامُ
يا قوامَ الدينِ لم يبقَ ببغدادَ مقامُ
عظمَ الخطبُ وللحربِ اتصالٌ ودوامُ
فمتى لم تحسمِ الداءَ أياديكَ الحسامُ
ويكف القوم في بغدادَ قتلٌ وانتقامُ
فعلى مدرسة فيها ومن فيها السلامُ
واعتصام بحريهم لك من بعد حرامُ
وكانت سياسة نظام الملك تجنب الانحياز إلى جانب دون الآخر من عقائد أهل السنة، وكان يعمل على شد أزر رجال الدين، لا العمل على إدخال الخلاف والشقاق في صفوفهم، وأعلن استحالة تغيير أي شيء من عقائد أصحاب مذهب سني، وقال بأنه لا يمكن تغيير المذاهب، ولا نقل أهلها عنها، وصرَّح بأن الغالب على تلك الناحية مذهب أحمد، وبأن محله معروف عند الأئمة وقدره معلوم عند السنة، وسُرَّ الحنابلة
بهذا التوجه الحكيم، وأول صراع وخلاف حاد بين الحنابلة والأشاعرة كان في عهد نظام الملك، وتعرف هذه المحنة بفتنة ابن القشيري (ابن الحنبلي وكتابه الرسالة الواضحة ، ص 50)
المصدر:
د. علي محمد الصلابي، دولة السلاجقة، الطبعة الأولى، 2006م، ص 355- 358.
هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!
مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس