د. سمير صالحة - العربي الجديد
بدأت أنقرة تقطف ثمار ما زرعته في الأشهر القليلة الماضية من تحوّل في سياستها الخارجية، وتحديدا حيال دول عديدة، عربية وفي الجوار. يعرف حزب العدالة والتنمية (الحاكم) أهمية تسجيل اختراقٍ لا بد منه في أزمات الداخل الاقتصادية والمعيشية والسياسية، لكنه يعرف أيضا أنه لا يمكن له الذهاب إلى معركة الانتخابات الرئاسية والبرلمانية بعد 18 شهرا، من دون أن ينجز القسم الأكبر من استراتيجية إعادة تموضعه الإقليمي والمصالحة مع اللاعبين المؤثرين في هذه المسائل.
التلويح باستخدام القوة حالة استثنائية في العلاقات الدولية، لا يمكن تبنّيها قاعدة تعامل بين الدول. قدّمت القيادات التركية، في أحيانٍ كثيرة، ورقة اللجوء إلى الحسم العسكري، أو دعم مثل هذا الخيار، عندما يصل الحوار السياسي والدبلوماسي في ملفاتٍ إقليميةٍ أمنيةٍ استراتيجية، تعنيها بشكل مباشر أو غير مباشر، إلى طريق مسدود. هي فعلت ذلك مع اليونان وقبرص اليونانية ودمشق، وحتى مع طهران وموسكو في جنوب القوقاز والقرم، لكنها اكتشفت أن سياسةً بهذا الاتجاه اعتمدتها، في العامين الأخيرين تحديدا، مع بعض العواصم العربية والخليجية وفي شرق المتوسط وشمال أفريقيا، لم تقدّم لها حلولا وفرصا كثيرة.
بين أهداف التحرّك الدبلوماسي الالتفاف على تصريحات السياسيين ومواقفهم، وامتصاص التوتر والاحتقان بين العواصم والدول، وهذا ما حدث في مسار العلاقات التركية المصرية أخيرا. الهدف الجديد للدبلوماسية التركية تسجيل اختراق حقيقي لتبديد الانسداد الحاصل في التعامل مع ملفاتٍ تقلق أنقرة إقليميا، وتتطلب حماية مصالحها، من دون مزيدٍ من الشحن والتعبئة السياسية والعسكرية، والعلاقة مع مصر واحد منها.
ليس جديدا أن يعلن الرئيس التركي، أردوغان، أن بلاده ستتخذ خطوات تقاربٍ مماثلةٍ مع مصر وإسرائيل، على غرار ما جرى مع الإمارات. الجديد هو المفاجأة التي وعدنا بها على خط المحادثات بين أنقرة والقاهرة، والتي لم تتوقف في السر والعلن منذ عام تقريبا، على الرغم من أننا لا نعرف الكثير حول مسارها ونتائجها، وعلى الرغم من أن وعود الحلحلة جاءت قبل ستة أشهر مع وزير الدفاع التركي، خلوصي أكار، الذي أعلن أنه على ثقةٍ بأن علاقة أنقرة مع القاهرة ستعود إلى أعلى مستوياتها قريباً، وأن ذلك يقلق بعضهم ويخيفهم"، لكننا ما زلنا ننتظر النتائج.
يقول أردوغان إن قمة تركية بحرينية ستنعقد قريبا، وإن اتصالات دبلوماسية وأمنية تسبق زيارته إلى أبوظبي في النصف الأول من فبراير/ شباط المقبل، لا بد أن يواكبها حراكٌ متزامنٌ باتجاه القاهرة وتل أبيب. والواضح أن أنقرة تريد استغلال تحسين علاقاتها مع أبوظبي وبغداد وعمّان لتسهيل حلحلة الجمود في علاقاتها على خط القاهرة وأبوظبي، مدعومةً بتقاربها مع الدوحة وعمّان. والمفاجأة لا بد أن تشمل خط أنقرة الرياض أيضا، لأنه مفتاح أزمات سياسية واقتصادية كثيرة تبحث تركيا عن حلولٍ لها، وهي تقوم بعملية جرد ومراجعة لحراكها الإقليمي. تحتاج العودة التركية إلى الخليج، بثقله الاستراتيجي، إلى دعم ورضى سعوديين لا يمكن تجاهلهما أو تجاوزهما أو محاولة الالتفاف عليهما، والدخول في مغامرة استبدالهما بخياراتٍ بديلة، وهذا ما لن تفعله القيادات التركية.
يوحي كلام الرئيس أردوغان أن الأمور وصلت إلى خواتيمها في الحوار التركي المصري، وأن لحظة الخروج من حالة التشاؤل اقترب موعدها، حتى ولو تمسّك الجانب المصري بكرسي والد العريس، وتحرّك بدقة وحذر، لا يبتسم إلا عند الضرورة، ليكون جاهزا لأي سيناريو يفسد حفل الزفاف. وحتى لو أعلن وزير الخارجية المصري، سامح شكري، أنه في حال وُجد تغيير حقيقي في السياسة التركية، بما يتماشى مع الأهداف المصرية لاستقرار المنطقة وعدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول، فإن ذلك سيكون أرضية مؤهلة لاستعادة العلاقات الطبيعية مع تركيا.
هل من ترابطٍ بين المفاجأة التي وعد بها أردوغان بشأن العلاقة مع مصر وتصريحاته في مطلع شهر يونيو/ حزيران المنصرم "مصر ليست دولة عادية بالنسبة لنا، وأنقرة تأمل في تعزيز تعاونها مع القاهرة على أساس نهجٍ يحقق الفائدة للجميع .. لدينا إمكانات كبيرة للتعاون مع مصر في نطاق واسع من المجالات من شرق البحر المتوسط إلى ليبيا". وفي البال إن ملفات تركية مصرية تناقش منذ أشهر، يتقدّمها ترسيم الحدود البحرية وحسم ملف الإخوان المسلمين والأزمة الليبية والسورية وتوازنات الساحة الأفريقية وموقعي أنقرة والقاهرة ودورهما في رسم معالم خطوط الطاقة والممرّات الاستراتيجية الإقليمية الاقتصادية والتجارية الجديدة. والمفاجأة التركية المصرية قد تبدأ بتفاهمات في الوقوف إلى جانب مرشح مقبول شعبيا ووطنيا في انتخابات الرئاسة الليبية. وتنسيق تركي مصري في الملف السوري مثلا هو بمثابة أكثر من فرصة للبلدين، وقد يكون هو الآخر بين المفاجآت. والعقبة الواجب تجاوزها هنا اقتناع الطرفين بأهمية التنسيق الثنائي المشترك وفوائده لهما ولسورية. طاولة تفاهمات تركية عربية تضم إلى جانب تركيا ومصر الإمارات والسعودية وقطر والأردن بشأن الملف السوري ستقوي مواقف هذه العواصم في حوارها مع طهران وموسكو وواشنطن وتل أبيب حول الملف.
تتودّد أنقرة إلى مصر خلال الفترة الأخيرة، لرغبتها في ترسيم الحدود البحرية في المتوسط مع القاهرة، حتى ولو أعلنت الأخيرة أن ترسيم الحدود البحرية بين مصر وتركيا لن يكون على حساب علاقتها مع اليونان أو قبرص اليونانية. والقول إن مصر لن تتحرّك بمفردها حيال أية خطوة انفتاحية على تركيا، وإنما ستراعي مصالح دول الخليج وستنسق معها شيء، والتلويح بتمسّك القاهرة بمصالحها مع كل من قبرص واليونان، وربط ذلك بشرط إرضاء تركيا أثينا ونيقوسيا شيء آخر.
من الممكن قبول طرح إن على أنقرة مراجعة سياساتها الهادفة "إلى محاصرة النفوذ المصري في البحر الأحمر وما حوله في السودان والصومال وشمال أفريقيا". ولكن القاهرة لا بد أن تأخذ بالاعتبار ما تردّده أنقرة أيضا أن التقارب التركي المصري سيكون، شئنا أم أبينا، على حساب التقارب المصري مع أثينا ونيقوسيا، لأن القيمة الاستراتيجية لهذا التقارب أهم وأكبر بكثير من الغزل الثاني، حتى ولو كان بدعم وتشجيع أميركي أوروبي. لا بد وأن القاهرة ستذهب وراء سياسةٍ أكثر براغماتية وعملية في حوارها مع أنقرة، عندما تتطلب الضرورات ذلك.
تحاول أنقرة، منذ فترة، إقناع القاهرة بأن توقيع اتفاقية لترسيم الحدود البحرية بين البلدين سيعيد إلى مصر مناطق واسعة قد خسرتها لصالح اليونان وقبرص اليونانية في شرق المتوسط. احترام مصر الجرف القاري التركي رسالة إيجابية يمكن البناء عليها، وتحويلها إلى فرصة لتفاهمات وتعاون تركي مصري مشترك، في استثمارات ضخمة بطابع ثنائي ومتعدّد الأطراف، قد تكون هي أيضا مكان المفاجأة التي لم يعلن عنها أردوغان بعد.
يدرك اللاعبان، التركي والمصري، وعلى ضوء التوازنات الإقليمية الجديدة، أنهما قادران على تغيير مجرى معادلاتٍ كثيرة، للدفاع عن مواقعهما ومصالحهما المشتركة في المنطقة، وأن ذلك يخدم عواصم عربية وإقليمية عديدة، في مواجهة الصعود الإيراني والنفوذ الإسرائيلي، أو في حالة التفاهم والتنسيق معهما، لكن استقلاليةً من هذا النوع قد تتطلب إغضاب واشنطن أحيانا، واستفزاز موسكو أحيانا أخرى، فهل يستحق ذلك المغامرة؟
هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!
مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس