عبد الحميد صيام - تي آر تي عربي
في الثامن من شهر مايو/أيار الحالي تدق أجراس كنيسة القديس سركيس (Surp Giragos) الأرمينية التاريخية، في منطقة ديار بكر، معلنة فتح أبوابها للمصلّين بعد سنوات الإغلاق التي استمرت أكثر من 30 سنة.
لتعود أكبر كنيسة أرمينية في الشرق الأوسط إلى نشاطها المعتاد بعد اكتمال أعمال الترميم التي استغرقت سبع سنوات طباقاً.
هذا الخبر أثارني حقاً ووجدت فيه شيئاً عظيماً يلفت الانتباه ويثير شهية الحبر ورغبة التعليق، لأن الكنيسة أرمينية ولأنها في ديار بكر ولأنها في تركيا.
فالتسامح الديني وتلاقي الحضارات والأديان والأعراق لا أجده أكثر وضوحاً منه في تركيا، فما من مرة زرت هذه البلاد العريقة، وزياراتي لها كثيرة جدّاً، والتي تتداخل في مسامات ثقافتنا ومكونات وعينا، إلا أُصبت بالانبهار وأنا أشاهد في شوارعها وشواطئها ومطاراتها ومقاهيها ومطاعمها وقطاراتها هذا الخليط من البشر من كل الأعراق والخلفيات والأشكال واللغات.
تجلس على مقهى في منطقة السلطان أحمد فتجد المحجبات إلى جانب السافرات والملتحين مقابل البناطيل القصيرة والمخمرات يتجولن قرب الجامع الأزرق بتقاطع أو بالتوازي مع الأوروبيات اللواتي يتأبطن أصدقاءهن دون أي اعتبار للآخرين. هذا التنوع هو إحدى المزايا الذي تميز تركيا الدولة والشعب، حتى أصبحت البلاد إحدى أهم مناطق الجذب السياحي في العالم، يصل إليها نحو 30 مليون سائح سنوياً، بسبب التسهيلات السياحية من جهة وما تقدمه البلاد للزوار من باقة من المغريات السياحية من طقس معتدل وشواطئ نظيفة ومعالم تاريخية لا تُحصى ووجوه باسمة مرحّبة بالزائرين وخدمات راقية من فنادق ومطاعم ورحلات منظمة بحرية وأرضية ونهرية.
لذلك أرى في افتتاح الكنيسة الأرمينية تطوراً نوعياً لتعميق التسامح الديني والتصالح مع التاريخ بسبب الخلفية المشوهة التي عُمّمَت على العالم وبولغ فيها حول العلاقات التركية-الأرمينية خلال وبعد الحرب العالمية الأولى.
إن فكرة التسامح الديني وتعزيز هذا التسامح، فعلاً لا قولاً، تبرز كأحد المسارات التي يمكن اتباعها لحلّ العديد من النزاعات خصوصاً في الشرق الأوسط الذي ما زال أرضاً خصبة لصدام الحضارات والأعراق والأديان والمذاهب.
فتركيا بهذه الخطوة تقدّم النموذج الأرقى للانفتاح ونشر ثقافة المحبة ووضع حدّ لتلك المحاولات الشريرة التي تهدف إلى وضع كثير من العِصِيّ في دواليب عجلة المصالحة التاريخية بين تركيا الدولة وأحد مكونات شعبها المنتمي إلى العرق الأرميني.
الشعب يحمي النظام الديمقراطي
إن من أعظم إنجازات الفترة الحالية من الحكم إبعاد الجيش عن السياسة وإقامة نظام ديمقراطي تعدُّدي لجميع أبناء الشعب. لقد شعرَت أطياف الشعب التركي أن هذا النظام، رغم بعض التحفظات هنا وهناك، إنما يمثّل الجميع، معارضة وسلطة، ولا أدل على ذلك من وقوف الشعب التركي صفّاً واحداً لحماية النظام الديمقراطي عندما قام بعض الضباط المدعومين من الخارج بمحاولة انقلابية صيف عام 2016.
تَحدَّثَ يومها الرئيس أردوغان، الذي كان خارج مدينة إسطنبول، عبر وسائل التواصل وطلب من الشعب أن يحمي ديمقراطيته، فنزلت الملايين إلى الشوارع، ولم يمضِ إلا ساعة أو ساعتان حتى بدأت الأخبار تنتشر معلنة فشل الانقلاب ووضع المسؤولين عنه في السجن. ثم ظهر أردوغان في مطار إسطنبول قرب الجماهير وألقى بياناً أكّد فيه أن الانقلاب فشل وأن مدبريه سينالون عقوبتهم وأن عودة الاستقرار مسألة ساعات، وأثنى فيه على الشعب الذي حمى ثورته.
إن أحزاب المعارضة الوطنية التي تحب بلدها وتعتزّ بنظامها وتصل إلى قبة البرلمان عبر انتخابات حرة، والتي قد تناكف الرئيس المنتخَب وحكومته في كل صغيرة وكبيرة، وقفت مع تلك الحكومة ومع الرئيس عندما تعرضت الديمقراطية للخطر. فإنقاذ النظام الديمقراطي هو إنقاذ لسفينة الوطن وليس إنقاذاً لربان السفينة فقط، ومن يُعادِ الربان ويتمنَّ اختفاءه إنما يغلّب نزعاته الشخصية وموقفه السياسي على مصلحة الوطن والشعب.
الجميع يمارس شعائره دون تدخُّل من الدولة. الجامع مفتوح والكنيسة مفتوحة والنادي الليلي مفتوح، كلٌّ يذهب حيث يميل قلبه، ومسؤولية الدولة الحفاظ على أمن الجميع وحقّهم في ممارسة خياراتهم وعقائدهم دون وجل أو خشية. إن فشل هذه المحاولة الانقلابية يثبت أن الشعب التركي قد ارتقى إلى مستوى المسؤولية في حماية نظامه السياسي الذي اختاره بإرادته الحرة، وأن عهد الانقلابات قد ولى.
العلاقات التاريخية مع الأرمن
لعلّ افتتاح الكنيسة يوم الثامن من هذا الشهر يفتح معه صفحة جديدة على طريق ترتيب العلاقة التاريخية بين الأرمن، وهم أحد المكونات الأصيلة للشعب التركي، من جهة، وبين الأرمن في كل مكان، والدولة التركية.
لقد أثير كثير من القصص وعُمّم كثير من الروايات غير الدقيقة والمبالغ فيها حول ما جرى خلال الحرب العالمية الأولى، والتي من الناحية القانونية حدثت في أثناء الدولة العثمانية لا الجمهورية التركية. ونحن لسنا في وضع يسمح لنا أن نقرر ما الذي حدث عام 1915، ونتركه للتاريخ ليحسم هذا الموضوع بالتحقيق الدقيق ومراجعة جميع الوثائق. ومن حقّ تركيا أن تُسمَع، ومن حق لجنة من الدول الأعضاء أن تنشئ لجنة محايدة لبحث المسألة والرسوّ على موقف نهائي وقانوني.
لقد ظل الأرمن حتى عام 1961 لا يستخدمون مصطلح "الإبادة الجماعية"، بل يطلقون على ما حدث Meds Yeghern” أو "الكارثة الكبرى" أو "النكبة العظيمة"، ولكنهم عادوا وغيّروا المصطلحات تحت ضغط من الدول الغربية. لكن حسم هذا الموضوع بتبرئة الدولة العثمانية أو تحديد حجم مسؤوليتها وحسم الجدل حول ما جرى بالضبط هو من اختصاص لجنة تحقيق خاصة لا تمانع تركيا في إنشائها.
الشيء الذي يثير الحنق هو أن تنصّب مجموعة من الدول الغربية، مثل الولايات المتحدة وفرنسا وبريطانيا، نفسها حكماً على تصرفات العالم السابقة واللاحقة. كل هذا الصخب حول مأساة الأرمن لم نسمعه إلا في العقد الأخير بعدما بدا لهذه الدول أن النظام في تركيا مختلف عن سوابقه من حكم العسكر. صمتت فرنسا وأمريكا وبريطانيا لأكثر من 80 سنة عندما كان العسكر يحكمون تركيا. كانت دولة محبوبة ومدلَّلة. تَغيَّر الأمر بعد وصول نظام مختلف تماماً يريد أن يبنى دولة عصرية متقدمة من جهة، ومن جهة أخرى يعزّز الانتماء إلى حضارة الشعب التركي وتاريخه وثقافته وهُوِيَّته المميزة التي طوَّرها عبر أكثر من تسعة قرون.
إن مَن تكُن يداه ملطختين بدماء الشعوب لا يحقّ له أن يعطي دروساً في الأخلاق وحقوق الإنسان، ومن أقام بلده على الإبادة الجماعية للسكان الأصليين، وعلى استرقاق ملايين الأفارقة، ومن أسقط قنبلتين نوويتين على هيروشيما وناغازاكي، ومن دمَّر مدينة دريزدن الألمانية بعد توقُّف الحرب العالمية الثانية، ومن قتل أكثر من مليون ونصف مليون من العراقيين في حربين متتاليتين، لا يحق له أن ينصّب نفسه حكماً أخلاقياً على العالم.
أما فرنسا فهي آخر من يحقّ له أن يتكلم عن المجازر والإبادات الجماعية وسجلّها ملطَّخ بالعار في مستعمراتها في كل مكان، وعلى رأسها الجزائر حيث أبادت مليوناً ونصف المليون من بلد كان عدد سكانه لا يزيد على ثمانية ملايين. وأما عن بريطانيا فلو لم تقم إلا بزرع الكيان الصهيوني في فلسطين وطرد شعب آمن من بلده لكفاها ذلك العار إلى الأبد.
ترميم الكنيسة
نودّ أن نثمّن هذه الخطوة المباركة، ليس فقط لترميم الكنيسة التاريخية في ديار بكر التي يزيد عمرها على 600 سنة، بل لترميم العلاقة مع الأرمن داخل تركيا وخارجها. وننتظر اليوم الذي يتم فيه تصحيح العلاقات مع أرمينيا نفسها.
لقد أُهمِلَت الكنيسة في بداية التسعينيات من القرن الماضي عندما انتشرت الجماعات الإرهابية في منطقة ديار بكر التي أودت بحياة المئات من المواطنين الأتراك بمختلف أعراقهم وأديانهم، ما اضطرّ أبناء المنطقة القريبة من الحدود الشرقية الجنوبية إلى الهرب إلى الداخل التركي.
ومن بين الذين اضطُرّوا إلى الرحيل الأتراك الأرمن، وقد استقرّ بعضهم في المدن الداخلية أو هاجر إلى الدول الأوروبية. في عام 2008 اتخذت الحكومة التركية قراراً بترميم المنطقة وإعادة تأهيلها، ومن بين القرارات إصلاح كنيسة القديس سركيس الأرمينية التاريخية.
تم إعادة فتح الكنيسة للمصلّين من عام 2011 لغاية عام 2015، إلا أن عملية إرهابية وقعت عام 2015 استخدمت الكنيسة وأدّت إلى مقتل 24 من رجال الأمن التركي أدّت إلى إغلاق العديد من المرافق والمساجد والكنائس، فاضطُرّ الكثيرون إلى مغادرة المنطقة وإهمال الكنيسة مما أدّى إلى إلحاق الدمار بها.
لكن تصميم الحكومة التركية على ترميم الكنيسة التاريخية لم يتوقف، وعادت لتصلح الكنيسة مرة أخرى بمشاركة الأرمن أنفسهم من خلال المؤسسة الأرمينية وبلديات منطقة ديار بكر. لقد تم إصلاح جرس الناقوس الكبير للكنيسة الذي يزن 100 كجم، في مدينة موسكو بالاتحاد الروسي، وأعيد الآن ليأخذ مكانه في منارة الكنيسة ليُقرَع أيام الآحاد والأعياد الدينية الأرمينية، داعياً المؤمنين إلى الصلاة بعد استقرار الأوضاع وعودة الأمور إلى سابق عهدها ليشهد مرة أخرى انصهار ملايين البشر من كل الجنسيات والأعراق والأديان في بوتقة واحدة تُدعى الشعب التركي.
هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!
مواضيع أخرى للكاتب
مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس