صلاح الدين الجورشي - عربي21
فشلت المعارضة التركية في إزاحة طيب أردوغان الذي انتقل إلى الدوررة الثالثة، رغم الجهود التي بذلها خصومه في الداخل والخارج. لقد تمكن من تجاوز كل العقبات التي وُضعت أمامه أو التي ولّدتها السنوات الماضية من حكمه، لكن القادم سيكون الأصعب والأهم.
تركيا اليوم منقسمة على نفسها أكثر من أي وقت مضى، فـحوالي 47.8 في المئة من مواطنيه صوتوا ضده وانحازوا حتى آخر لحظة في السباق إلى خصمه كليتشدار أوغلو، وهي نسبة ليست هيّنة، ولا يمكن لأي زعيم سياسي يحترم نفسه أن يستهين بأكثر من 25 مليون ناخب. فكثير من هؤلاء صوّتوا ضده شخصيا من باب الكراهية له وسياساته. وتعتبر هذه معضلة عويصة تحتاج إلى صبر وحكمة وقدرة من أجل تغييرها أو التخفيف من حدتها.
على أردوغان أن يفي بوعوده التي وزّعها على ناخبيه، عليه أن يخفف من حدة الأزمة الاقتصادية، وأن يعيد بناء الولايات التي ضربها الزلزال، والتي ساندته رغم تشنج المعارضة ضدها، عليه أن يتعامل بذكاء مع ملف المهاجرين السوريين، عليه أن يخفف قبضة السلطة على الحريات، عليه أن يواصل تعاونه مع الأكراد الذين تحالفوا معه، وعليه بالخصوص أن يستمر في تطويره للصناعة العسكرية التي جعلت من تركيا لاعبا أساسيا في منطقة الشرق الأوسط، وهو ما دفع بالخبير الفرنسي في الجغرافيا السياسية لورون آرتير إلى التحذير من توسع حضور الأسطول البحري التركي في البحر الأبيض المتوسط، داعيا فرنسا إلى تنسيق وثيق مع كل من إسبانيا والبرتغال وإيطاليا، أيضا اليونان، من أجل وضع حد لهذا التوسع. لقد أصبحت تركيا تثير مخاوف الدول الغربية.
وفي الوقت الذي فشلت فيه جميع الأحزاب الإسلامية العربية بالخصوص، نجح حزب العدالة والتنمية ليس فقط في البقاء في السلطة لأكثر من عشرين عاما خلال مرحلة صعبة محليا ودوليا، وإنما أيضا برصيد جيد في أكثر من مجال.. نجح لأنه جعل من حزبه ممثلا فاعلا لتيار محافظ واسع في الشارع التركي، وتمكن من أن يبني تحالفا قويا مع الحزب الذي يصنف على يمينه، لكن مع ذلك يجب عليه أن يكون حذرا من الوقوع في الشوفينية، وألا يوقع أنصاره في نزعات معادية للحريات والاحتماء بأفكار قديمة ومتعارضة مع حركة التقدم والاستنارة والحداثة.
المعركة الانتخابية التي عاشتها تركيا أكدت الفوضى الفكرية التي يعيشها العالم اليوم، لم يعد لليسار معنى محددا ومضامين مختلفة عن اليمين باعتباره النقيض له. فكليتشدار أوغلو اختار في الجولة الثانية أن يضع نفسه مع حزبين متناقضين، وأن يلجأ إلى التحالف مع حزب ينتمي إلى أقصى اليمين، وهو الشخصية الليبرالية؛ المهم بالنسبة إليه كسب أكثر عدد من الأصوات ضد أردوغان، فاختل صفّه واضطربت صفوفه بشكل واضح. سياسة الربح والخسارة بالمعنى السطحي والظرفي من شأنها أن تقتل السياسة، وتجعل من قضية اللاجئين السوريين ورقة انتخابية على حساب كرامتهم، وعلى حساب حقوق الإنسان.
رغم البراغماتية العالية لرجب طيب أردوغان، التي مكنته من أن يتجنب مخططات الغربيين الهادفة لتحجيمه، وجعلته يتحرك كالزئبق إقليميا ودوليا، لكن مع ذلك عليه أن يقلل من معاركه ضد الغربيين. هم يعتبرنه الآن حليفا لبوتين وزعماء الصين وإيران الذين يجمع بينهم العداء للغرب، رغم انتماء تركيا إلى حلف الناتو. لهذا سيبقى مستهدفا من قبل الغرب، رغم علاقاته "المتينة" استراتيجيا مع أمريكا.
لا شك في أن انتصاره السياسي سيدفع الحكومات الغربية إلى تليين الخطاب، والقبول بالأمر الواقع، في انتظار احتمال تغيير سياساته الخارجية. لهذا سارعت رئيسة المفوضية الأوروبية نحو الاتصال بأردوغان، وعبرت له عن رغبتها في استمرار تطوير العلاقات الثنائية المهمة لكليهما. وهو ما فعلته واشنطن بعد الحديث العلني للرئيس بايدن عن ضرورة التعاون مع المعارضة من أجل إسقاط أردوغان، وها هي شبكة cnn تقر بأن تركيا سيكون لها دور حاسم في الأيام القادمة، وستلعب أدوارا مهمة أينما نظرنا، في الناتو والاتحاد الأوروبي والمهاجرين..
ما حدث يؤكد على أن الديمقراطية التركية لا تزال بخير رغم العديد من ثغراتها، إذ نادرا ما توجه نحو 90 في المئة من الناخبين في المجتمعات الديمقراطية إلى صناديق الاقتراع لاختيار رئيس أو أعضاء برلمان. هذا يعني أن الإحساس بالخطر ومواجهة التحدي يمكن أن يدفعا بشعب ما إلى المشاركة الفعلية في صنع مصيره بوعي وشفافية ونزاهة. وبالتالي من حق الرئيس المنتخب أن يفتخر بثقة شعبه، ومن واجبه أن يحترم تلك الإرادة الشعبية، وأن يلتزم بقواعدها ولا ينقلب عليها.
هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!
مواضيع أخرى للكاتب
مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس