صالحة علام - الحزيرة مباشر
تحت عنوان “هل يكون العرب أول ضحايا الانتخابات التركية؟” نشرتُ مقالًا بتاريخ 12 مايو/ أيار الماضي في الجزيرة مباشر، تناولت فيه جزءًا ضئيلًا من معاناة العرب المقيمين في تركيا، جراء خطاب العنصرية والكراهية الذي تبنته أحزاب المعارضة التركية بجميع أشكالها وأيدولوجياتها، واستثمرته في معركتها الانتخابية ضد سياسات حزب العدالة والتنمية، التي انتهجها في تعامله مع ملف اللاجئين، خاصة هؤلاء الذين هاجروا من دول تعاني من اضطرابات سياسية حادة، وتلاحق أنظمتها المعارضين لها، وفي مقدمتهم اللاجئون السوريون.
وذَكرتُ أن استمرار تبني رؤساء أحزاب المعارضة، والسياسيين الفاعلين على الساحة التركية لهذا النهج في لقاءاتهم الجماهيرية، كان كفيلًا بزرع الكراهية والرفض لكل ما هو مسلم وعربي في نفوس الأتراك، وأن الحصاد المُرّ لهذا التوجه سيدفع ثمنه الجميع دون استثناء، وهو ما أصبح يتحقق فعليًّا بكل قسوة اليوم داخل المدن التركية جميعها.
فالكراهية والبغضاء أصبحتا عنوان تعامل غالبية الأتراك عمومًا مع العرب، دون تفريق يذكر بين المقيمين منهم والزائرين، فجميعهم في نظر التركي أشخاص غير مرغوب فيهم، يجب عليهم مغادرة البلاد والرحيل عنها بأي طريقة، حتى إن بعض المنظمات والجمعيات بدأت تنظم تظاهرات جماهيرية للمطالبة بترحيل اللاجئين عن مدنها وقراها.
الحكومة التركية، التي وقفت دومًا إلى جوار اللاجئين، خاصة السوريين، وكانت حائط الصد والدرع الواقي لهم من الحملات التي استهدفت وجودهم في تركيا على مدار السنوات الماضية، والتي طالما تغنت بخطاب إسلامي يدغدغ المشاعر ويلهب الحماس، وصفت فيه اللاجئين بالمهاجرين، في مقابل وصفها للأتراك بالأنصار، ووجهت انتقادات حادة لخطاب الكراهية الذي توظفه أحزاب المعارضة لخدمة أغراضها السياسية في تجاهل تام للعامل الإنساني الذي يميّز هذه المسألة ويغلّفها.
هذه الحكومة انقلب موقفها فجأة ودون مقدمات بـ360 درجة، وأصبحت هي نفسها جزءًا من الحملة الشرسة التي تستهدف الوجود العربي بأنواعه وأشكاله كافة، وإذا كانت أحزاب المعارضة تروّج للعنصرية والكراهية ضد الوجود العربي والإسلامي، وتعِدُ ناخبيها بترحيلهم حال وصولها إلى السلطة، فإن الحكومة التركية، صاحبة القرار، بدأت في اتخاذ إجراءات فعلية على الأرض لتحقيق الوعود التي قطعتها المعارضة على نفسها، وكأنها أصبحت جزءًا منها أو بديلًا عنها.
يمكن لمس هذا الانقلاب في موقف الحكومة، الذي جاء بعد مدة وجيزة من انتهاء الانتخابات الرئاسية والبرلمانية، من خلال رصد عمليات التغيير التي طالت المسؤولين عن ملف اللاجئين والهجرة، وفي تصريحات المسؤولين فيها عمومًا المرتبطة بالوجود الأجنبي على الأراضي التركية.
فمن ناحية تم استبدال أفراد فريق العمل كله الذي تولى مهمة التعامل مع اللاجئين والمهاجرين إلى تركيا منذ أكثر من عشر سنوات، بفريق جديد تمامًا لا يمت لسابقه بصلة، بدءًا من وزير الداخلية، ومرورًا بوالي إسطنبول، وانتهاءً بطاقم العمل في دائرة الهجرة.
وقد بدأ المسؤولون الجدد عملهم بانتهاج لهجة مغايرة لم يتعودها اللاجئون من قبل؛ إذ أوضحوا من دون مواربة أنهم بصدد العمل على إنهاء وجود المهاجرين غير الشرعيين خلال مدة زمنية لن تتخطى خمسة أشهر على أكثر تقدير، وأنهم لن يسمحوا لأي أجنبي بالبقاء في إسطنبول، أكبر المدن التركية وأكثرها استقبالًا للاجئين، دون أن يكون مسجلًا في سجلاتها الرسمية، مؤكدين أن هذه السياسة الجديدة تستهدف مكافحة الهجرة غير الشرعية، وأنها ليست موجهة ضد السوريين تحديدًا كما يروّج له البعض.
لكن تداول الكثير من القصص والروايات المصورة، وبث العديد من الفيديوهات على مواقع التواصل الاجتماعي التي توثق معاناة العرب في تعاملاتهم مع الأتراك، سواء في المصالح الحكومية، أو في المحال التجارية، أو في الأماكن السياحية والفنادق، يعكس واقعًا مغايرًا لما صدر من إيضاحات عن المسؤولين الأتراك.
ومن ضمن ذلك التسجيل الذي يرصد حملة أمنية موسعة ضد المواطنين السوريين ومحالهم التجارية في مدينة بورصة، حيث أفادت وسائل الإعلام المحلية التي نشرت التسجيل المشار إليه أن قوات الأمن فرضت رقابة شديدة على أحياء المدينة ومناطقها المعروفة بكثافة الوجود السوري فيها، كما تم تفتيش المارة في الأسواق والحدائق العامة والمطاعم والمقاهي، وألقى أفراد الحملة القبض على 10 أشخاص، واقتادوهم إلى مراكز الترحيل.
وقد ذكرت إحدى الصحف المحلية المقربة من الحكومة أن ولاية إسطنبول قررت تعليق إصدار تصاريح إقامة جديدة للأجانب إلى أجل غير مسمى، مشيرة إلى أن هذه الخطوة تستهدف مواجهة الهجرة غير الشرعية، والحد من الوجود الأجنبي في المدينة.
ترافقت هذه التصريحات الرسمية مع زيادة حجم الحملات الأمنية المنتشرة في أرجاء إسطنبول كافة، التي تجوب مختلف الشوارع والميادين ليلًا ونهارًا، وتتمركز أمام الجوامع ومحطات الحافلات العامة، للتدقيق في وثائق الإقامة، والبحث عن أي مخالفة قد يكون الشخص ارتكبها.
النهج المتشدد الذي تنتهجه الحكومة التركية حاليًّا في تعاطيها مع ملف اللاجئين، وسعيها المحموم في تحقيق تغير لافت وملموس بشكل سريع، يعود على ما يبدو إلى رغبتها في إغلاق هذا الملف، وسحب البساط من تحت أقدام المعارضة، ومنعها من توظيفه ضدها كما حدث في الاستحقاقات الانتخابية السابقة، وذلك في إطار استعداداتها المبكرة للانتخابات المحلية المقررة في شهر مارس/ آذار المقبل، حيث يخطط حزب العدالة والتنمية لاسترداد بلديات إسطنبول وأنقرة وأنطاليا، التي خسرها في الانتخابات السابقة بسبب ملف اللاجئين.
والدليل على صحة هذا الاحتمال أن الرئيس أردوغان نفسه أكد في تصريحات له أن هناك تشديدات أمنية يتم اتخاذها اتجاه المهاجرين غير الشرعيين، وأن المواطنين الأتراك الذين يشعرون بعدم ارتياح اتجاه اللاجئين سوف يلمسون تغييرات كبيرة وواضحة في مدة زمنية وجيزة، وأن عمليات الهجرة غير الشرعية يجب أن تقف من منبعها خاصة الشمال السوري، وأنهم بالفعل يعملون حاليًّا على تحقيق هذا الهدف.
ورغم تفهمنا التام لموقف الحكومة التركية، ورغبتها في بث الطمأنينة في نفوس مواطنيها فإن عليها إدراك أن زمام الأمور قد انفلت، والمشكلة تضخمت، فلم يعد اللاجئون هم المستهدفون فقط، فالمسألة اتسعت وتشعبت، وهو ما يمكن رصده من خلال ما يلقاه السائحون العرب من سوء معاملة.
وهذا ما جعل الأمور تخرج عن السيطرة، بظهور ردّ شعبي عربي غاضب ورافض لما يحدث، إذ بدأت الكثير من الدعوات والحملات على وسائل التواصل الاجتماعي تطالب العرب جميعًا بمقاطعة البضائع والمنتجات التركية في أي مكان بالعالم، وتحثهم على الامتناع عن إدراج تركيا في وجهات السفر سواء للسياحة أو لزيارة الأهل والأقارب فيها، ردًّا على سوء المعاملة التي يلقونها من الأتراك.
فإذا لم تتدارك الحكومة التركية الأمر، ويتم التعاطي مع ملف اللاجئين بصورة أكثر عقلانية، فالنتائج السلبية التي سيفرزها هذا النهج ستنعكس على علاقات تركيا الدبلوماسية مع العديد من الدول العربية، التي بدأت شعوبها تستشعر مدى ما يكنه لهم الأتراك من حقد وكراهية.
هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!
مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس