توران قشلاقجي - القدس العربي
اغتصبت دولة إسرائيل الصهيونية الأراضي الفلسطينية، من خلال التشبث بمزاعم «أرض الميعاد» في التوراة، ومنذ سنوات طويلة ترتكب إبادة جماعية بحق جميع أفراد الشعب الفلسطيني، من دون أي تمييز بين أطفال ونساء ومسنين، عبر الادعاء بأن قوم «العمالقة» في التوراة هم الفلسطينيون. وقد آمن جميع زعماء الصهاينة بهذه الادعاءات، بدءا من مؤسس الصهيونية السياسية ثيودور هرتزل، ومؤسس إسرائيل دافيد بن غوريون، وصولا إلى شمعون بيريز وبنيامين نتنياهو.
لم يكتفِ قادة الصهاينة بأنفسهم فقط، بل جعلوا زعماء العديد من الدول، بما فيها الولايات المتحدة الأمريكية والدول الغربية الأخرى، يؤمنون بهذه الخرافات، أي هذه الادعاءات، وبالتالي، فإن مطالبتهم بحقوق في الأراضي الفلسطينية التي غادروها قبل ألفي عام، وتجاهلهم وذبحهم الشعب الفلسطيني، الذي يعيش على تلك الأراضي منذ آلاف السنين، جعل من الضروري إعادة النظر في السياسة العالمية. هذا الموقف الإسرائيلي الذي ينتهك مبادئ الديمقراطية وحقوق الإنسان والقانون الدولي بدعم من الولايات المتحدة والقادة الغربيين، لاقى انتقادات وردود فعل كبيرة من شعوب العالم.
إسرائيل الصهيونية لا تتمتع بأي شرعية تاريخية دينية أو قانونية قائمة على التوراة في فلسطين التي اغتصبتها، ولا يمكن أن تتمتع بأي شرعية أخلاقية، ولذلك يجب إعادة تنظيم النظام العالمي بهذا الدعم التاريخي، الذي تقدمه شعوب العالم لفلسطين. ولا شك في أن الفرص التي تقدمها لنا غزة تتطلب ذلك. المذابح والإبادة الجماعية التي ترتكبها في غزة أمام أعين العالم أجمع لا ترعب الرأي العام العالمي فحسب، بل إنها توفر أيضا فرصا مهمة لإقامة العدالة على الأرض. إحداها هو أن أساس الحكم القائل بأن «القوي هو دائما على حق» تبين أنه هش تماما، لقد خرج الملايين من الناس إلى الشوارع في العديد من البلدان، من البرازيل إلى إندونيسيا، ومن أيرلندا إلى اليابان، وانحازوا إلى جانب الحق والعدالة، وألقوا الهراء القائل «القوي هو دائما على حق» في مزبلة التاريخ واستبدلوه بمبدأ «المحق هو القوي».
والحقيقة الأخرى التي كشفت عنها غزة هي أن المؤسسات الإعلامية الرائدة في الغرب، مثل «سي أن أن»، و»بي بي سي»، و»فوكس»، و»لوموند»، و»دير شبيغل»، هي في خدمة رأس المال اليهودي، وليس الحقائق، كما تزعم. هذه المؤسسات التي يزعمون بأنها محترمة أيدت قتل عشرات الآلاف من المدنيين وآلاف الأطفال، متذرعة بـ»حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها» منذ بداية الحرب. شاركت هذه المؤسسات الإعلامية رسميا في المجزرة، من خلال إخفاء وجهات نظر الرأي العام في بلدانها عن شاشاتها وصفحاتها، إلا أن وسائل التواصل الاجتماعي كشفت مدى نفاقها بكل وضوح. وهي في الواقع تعلم جيدا أن إسرائيل هي دولة احتلال، وأن الفلسطينيين مقاومون يدافعون عن أرضهم، وفقا لقوانين الأمم المتحدة والقانون الدولي. وطالما أن الاحتلال مستمر، فإن مقاومته في كل زمان ومكان حق مشروع للفلسطينيين.
هناك مسألة أخرى باتت مهمة أيضا، وهي أن المجازر والإبادة الجماعية المرتكبة في غزة جعلت القضية الفلسطينية هي الأجندة الرئيسية للعالم أجمع، فقد أصبحت القضية الفلسطينية الآن الموضوع الرئيسي الذي يتم الحديث عنه ومناقشته في مئات الملايين من المنازل حول العالم، من أمريكا اللاتينية إلى افريقيا، ومن تايلند إلى اليابان، إضافة إلى ذلك، كشفت مجزرة غزة عن مدى خطورة إسرائيل ورأس المال اليهودي الذي يقف وراءها على العالم كله، لأنه بمجرد أن بدأت الحرب في غزة، تعرض كل من عبّر عن الحقيقة، بما في ذلك الأمين العام للأمم المتحدة ونجوم هوليوود والشخصيات الرياضية والأكاديمية الشهيرة في العالم، للتهديد من قبل رأس المال اليهودي، بل إن بعضهم فقد وظيفته وواجه حملات لتشويه سمعته. وأدرك الرأي العام العالمي بالفعل أن الوقت قد حان لتحرير مجالات مثل الفن والإعلام والسينما والسياسة وغيرها من سيطرة إسرائيل ورأس المال اليهودي.
الحقيقة المحزنة والمؤسفة التي كشفت عنها غزة أيضا هي، الفوضى واليأس الذي يعيشه العالم الإسلامي المكون من 52 دولة و5 مناطق تتمتع بالحكم الذاتي. يعاني العالم الإسلامي، لاسيما البلدان العربية، حالة من التشتت والعجز الكبير لدرجة أنه لا يستطيع حتى التدخل لمنع مذبحة تحدث بجواره. أليس من العار أن تنتظر الدول الإسلامية والقادة العرب الدعم والإشارات من القوى العظمى لدعم فلسطين، في الوقت الذي تدعم فيه الولايات المتحدة والدول الغربية حرب إسرائيل الهمجية وهي تعلم أنها ليست على حق؟ من المعروف أن القانون الدولي يعتبر أشكال الدعم العسكري والاقتصادي والسياسي كافة لفلسطين مشروعا، وإذا اكتفت الدولة الإسلامية بالشعارات ولم تتخذ خطوات ملموسة في ضوء هذه الحقيقة فإن مصيرها سيكون كارثيا.
في المحصلة؛ يجب أن يعلم قادة الدول الإسلامية والعربية، أنه مهما قدموا من تنازلات فإن مصير بلدانهم سيكون مثل العراق وليبيا. والصهيونية التي تؤمن بفكرة «إسرائيل الكبرى» لن تقبلهم إطلاقا حتى لو غيروا الجنس أو الدين، لذلك، إذا أرادت دول العالم العربي والإسلامي أن تعيش في أمن وسلام، عليها أن تضع النقاشات الأيديولوجية جانبا، وتوقف هذه الفوضى في أسرع وقت ممكن، وتسرع إلى إنشاء وحدات عسكرية وسياسية مشتركة، وعليها أيضا أن تقتدي بالمقاومة في غزة وتدرب جيوشها مثل أفراد المقاومة الفلسطينية. وإذا لم تتمكن من تحقيق ذلك رغم فرصة وقوف شعوب العالم إلى جانبها اليوم، فقد يصعب عليها تحقيق ذلك في وقت آخر. ويمكننا القول إنه إذا تم استغلال هذه الفرص التي توفرها غزة اليوم بشكل جيد، فإنها لن تؤدي إلى خلاص العالم الإسلامي والعربي فحسب، بل وأيضا البشرية جمعاء.
هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!
مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس