د. سمير صالحة - تلفزيون سوريا
تتحرك عواصم ومنظمات إقليمية ودولية عديدة باتجاه الإدارة السورية المؤقتة لمعرفة نواياها عند طرح خطط ومشاريع المرحلة الانتقالية في بناء الدولة الجديدة. الشعار المرفوع هو "البحث في سبل دعم العملية السياسية الانتقالية بما يحقق تطلعات الشعب السوري، ويضمن أمن واستقرار سوريا ووحدة أراضيها". هناك من يسعى للتأثير وهناك من يحاول تجنب التأثر، قبل أن تحسم القيادات السياسية الحالية في دمشق موقفها وتنطلق في رسم خارطة أولوياتها والعمل على تحقيقها.
يبرز موضوع شرق الفرات كأحد أبرز الملفات التي ساهمت أميركا في تعقيدها سياسيًا وأمنيًا واقتصاديًا طوال عقد كامل وهي تعد لهذه المرحلة التي تعيشها سوريا اليوم. هدفها الأول والأخير هو الانتقال بالنموذج العراقي السياسي والدستوري إلى سوريا، وبناء كيان كردي وفرضه على الثورة، دون الخوض في التوصيفات والمسميات، وتحويل الأمر إلى عملية مقايضة، إذا ما كانت قيادات دمشق الجديدة ترغب بالخروج من ورطة لوائح الإرهاب وحسم ملف داعش، وسحب السلاح الذي تواصل واشنطن إرساله إلى "قوات سوريا الديمقراطية" والاستفادة من خيرات وثروات المنطقة.
العقبة قد تكمن فيما تقوله القيادات السورية السياسية والعسكرية الجديدة حول شرق الفرات، لكن العقبة الأكبر هي ما تقوله أنقرة. فكيف ستتعامل إدارة ترامب الجديدة مع الموضوع لإرضاء مؤسسات الدولة العميقة المتمسكة بمشروعها في الشرق الأوسط بالتنسيق مع إسرائيل؟ وما هي الأوراق التي ستدعمها بعض العواصم المهتمة بإضعاف النفوذ التركي وتفكيك شعار الدولة القومية، والانتقال بالشرق الأوسط نحو الفدراليات الرخوة والمطاطة؟ مع العلم أن إسرائيل هي الدولة الوحيدة التي ستكون مستثناة من المخطط خلال العقد القادم، على أمل تحقيق حلم إقليمي آخر يغير خرائط المنطقة.
هناك أكثر من مسار تفاوضي يجري حاليًا على خط تطورات المشهد السياسي والميداني في شرق الفرات. هناك الحوار التفاوضي الذي بدأ بين قيادات "قوات سوريا الديمقراطية" والسلطة المؤقتة في دمشق بقيادة أحمد الشرع. وهناك النقاشات المكثفة بين أنقرة وواشنطن التي تنتظر وصول ترامب. كما تتواصل الضغوط الإسرائيلية على جنوب سوريا بهدف منح "قسد" ومن يدعمها في الشمال المزيد من الثقل السياسي والفرص التي تقوي موقفها في التفاوض مع دمشق. بالإضافة إلى الحراك الأوروبي نحو العاصمة السورية والزيارات المتلاحقة المصحوبة بعروض دعم مالي ولوجستي، مقابل عدم تجاهل حقوق الأقليات السورية.
"قسد" جاهزة للتفاوض، لكنها هي وداعموها لا يثقون بالقيادات السورية التي تنسق مع أنقرة. تدرك "قسد" أنها لن تحصل على ما تريده من دمشق وستضطر إلى تقديم الكثير من التنازلات الأمنية والجغرافية والسياسية والاقتصادية دون مقابل حقيقي. فرصها تكمن في التمسك بغطاء إقليمي دولي أممي، على غرار ما حدث في العراق، والسعي للحصول على بول برايمر آخر يمنحها ما تطمح إليه.
يحاول البعض تصوير المشهد على أنه مواجهة تركية-كردية في سوريا، متجاهلين ما تقوله "قسد" بأنها ليست مجموعات كردية فقط. كما تشير القيادات التركية إلى سياسة الأبواب المفتوحة أمام الأكراد الوافدين من سوريا والعراق عندما ضاقت عليهم الجغرافيا. الهدف هو تحريك كل الأوراق الممكنة ضد أنقرة لإضعاف موقفها في سوريا وشرق الفرات.
أجرى وزير الخارجية الأميركي، أنتوني بلينكن، اتصالًا هاتفيًا مع نظيره الفرنسي، جان نويل بارو، بحثا خلاله "سبل مساعدة الشعب السوري على اغتنام الفرصة لبناء مستقبل أفضل، مع الحد من مخاطر عدم الاستقرار المتزايد، بما في ذلك من جانب تنظيم الدولة".
تحتاج "قسد" إلى قوة دفع إقليمية وربما دولية لتحقيق أهدافها، التي قد لا تُنجز عبر طاولة المفاوضات مع دمشق. فمن الذي سيوفر لها ذلك؟
هناك من يعتقد أن تحريك هذه الأوراق سيكون كافيًا لإقناع أنقرة بتغيير مواقفها وقبول المخططات المطروحة. إذا كانت واشنطن تفكر بذلك أيضًا، فإنها ستحتاج إلى نقل آلاف أو عشرات الآلاف من الجنود إلى شرق الفرات. ترامب أذكى من الوقوع في فخ الخيار الأميركي الوحيد عبر مواجهة عسكرية مباشرة مع الحليف التركي دفاعًا عن مشروع تفتيت سوريا، أو دفع أنقرة إلى حرب إقليمية مع جيرانها، بعد تراجع سيناريو لعب ورقة المعارضة التركية وفتح الطريق لوصولها إلى السلطة.
يعوّل البعض على "زرع الأمل في مسار سوريا الجديدة". لكن تاريخ سوريا والمنطقة يشير إلى خلاف ذلك، بدءًا من الفترة بين 1920 و1946، مرورًا بأحداث العام 1980، وما بعد المشهد العراقي عام 2003، وصولًا إلى تجاهل الثورة السورية على مدار 13 عامًا.
عندما كانت بعض الأصوات المحسوبة على "قسد" تدعو إلى حوار حقيقي وبنّاء بين دمشق وقيادات شرق الفرات، وضرورة دمجها في العملية السياسية ومنحها أدوارًا في بناء المؤسسة العسكرية والأمنية السورية الجديدة، باعتبار التفاهم مسألة وطنية سورية تتطلب صيغ عمل مشتركة بعيدًا عن أجندات أنقرة، كان التحالف الدولي بقيادة الولايات المتحدة يبدأ بإنشاء قاعدة عسكرية أميركية وسط مدينة كوباني، مصحوبًا بتصريحات لقائد التحالف الدولي في الشرق الأوسط بأن منطقة شرق الفرات تخضع لحماية وتفاهمات دولية، وأنهم لن يسمحوا بزعزعة الاستقرار فيها. وفي الوقت ذاته، أعلنت وزارة الدفاع التركية عن تحقيق تقدم في المحادثات مع القيادة الجديدة في سوريا حول "ملفات التعاون الاستراتيجي"، مؤكدة أن المحادثات كانت "مصحوبة بالكثير من العمل والقليل من الكلام".
لن تتراجع "قسد" عن مشروعها بهذه السهولة، لأنه ليس مخططها وحدها. لذلك يبقى خيار تدخل أنقرة، في حال وصل الحوار السوري إلى طريق مسدود، قائمًا، خصوصًا وأن موقفها أقوى اليوم مقارنة بموقف "قسد" التي فقدت ورقة النظام وتستعد لخسارة ملف "داعش".
المسألة بالنسبة لأنقرة أصبحت أبعد من مجرد منع تشكيل كيان انفصالي على حدودها الجنوبية، وأهم من تنفيذ عملية عسكرية في شرق الفرات ضد مجموعات حزب العمال الكردستاني. أولوية تركيا هي التعامل مع المتغيرات التي يحاول البعض تحريكها بالاتجاه الذي يناسبه في سوريا، حيث تراها فرصة ذهبية لتغيير العديد من المعادلات والتوازنات تمهيدًا لتعديل الخرائط.
ومن أمثلة هذه التحركات، تصريح وزير الخارجية الإسرائيلي الذي أعلن قبل أسابيع أن تل أبيب تنظر بسلبية إلى كل من النظام والمعارضة في سوريا، معتبرة أن حليفها الطبيعي الوحيد في سوريا هو الأقليات.
هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!
مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس