إبراهيم قراغول  - يني شفق

لقد دخلنا مرحلة زمنية قد ترغب فيها العديد من الدول بالاحتماء تحت جناحي تركيا، والشعور بالأمان في ظلها. حتى وإن لم يفصحوا عن ذلك اليوم، أو أخفوه بدافع من الاعتزاز الوطني، فإن معظم دول منطقتنا ستجد نفسها قريبًا مضطرة لمواجهة هذا الخيار.

لكن جناحي تركيا مفتوحان. طرف يمتد إلى آسيا الوسطى، وطرف آخر يصل إلى أفريقيا. طرف يمتد إلى البحر الأسود، وآخر إلى المحيط الهندي. من ينظر إلى الماضي، ويقرأ المستقبل، ومن يدرك الجينات السياسية التي رسمت خرائط هذه الجغرافيا منذ ألف عام، سيدرك أن هذه فرصة تاريخية.

إن حقيقة أن تركيا، التي تسعى إلى بناء "عالم من الشراكات" في مرحلة ما بعد الاستعمار، ستكون ملاذًا آمنًا وسط الطوفان الكبير القادم، ستصبح قناعة وهوية سائدة في جغرافيا "الحزام الأوسط".

لقد شهدت جغرافيتنا، التي استعمرها الغرب لمئات السنين ودمّرها، صعود شراكات بين الأمم والدول والثقافات، وشهدت أيضًا بناء كيانات فوق قومية خاصة بها.

لا استعمار. لا قومية. لا عثمانية

هذا ليس استعمارًا. وليس قومية. وليس عثمانية. بل هو صيغة تضامن جديدة في "المستقبل الجديد" الذي تشهد فيه منظومة العالم الغربي انهيارًا، وتنتهي فيه مرحلة العولمة. كما أن تفكك موازين القوى العالمية يفرض هذه الشراكات علينا، ويضعها أمامنا كخيار وحيد.

ولكن، ما الذي يحدث في العالم حتى ندخل في مثل هذه القراءات والتوقعات؟

لقد تفكك النظام العالمي الذي أُسس بعد الحرب العالمية الثانية إلى حد أن العالم الذي كنا نعرفه واعتدنا عليه قد انتهى. لقد أضعف الانقسام الكبير القوى العظمى، وجعلها تتحول إلى قوى إقليمية، بينما أعاد الدول ذات الجينات السياسية القوية إلى ساحة التاريخ.

لقد انهار السعي إلى نظام عالمي أحادي القطب الذي بدأته الولايات المتحدة بعد الحرب الباردة وسوّقته تحت شعار "القرن الأمريكي الجديد"، منذ وقت طويل. لكن ما يحدث الآن أعظم من ذلك بكثير؛ فهياكل القوى المركزية التقليدية تشهد تحولات استثنائية: بعضها يضعف، وبعضها يسقط، ليحل محلها قوى وأمم أخرى، ودول تحمل إرثًا إمبراطوريًا.

 

لم يعد هناك عالم يتمحور حول الغرب... نحن نشهد تغيرًا عمره خمسمئة عام!

 

لم يعد هناك عالم يتمحور حول الولايات المتحدة وأوروبا. لم تعد هناك "عولمة غربية". لم يعد هناك ما يسمى "العالم الثالث". لن تكون هناك بعد اليوم اتفاقيات ومؤسسات عالمية فوق قومية تتمحور حول أمريكا وأوروبا. ولم يعد "غرور الغرب" قادرًا على السيطرة على العالم وإخضاعه.

ما نعيشه اليوم من تحول جذري هو الزلزال الأكبر منذ ما أُطلق عليه "عصر الاكتشافات الجغرافية"، الذي مثّل بداية تاريخ الاستعمار. إنه تغيير يمتد لخمسمئة عام.

وبهذه الصورة، فإن ما يحدث يفوق في تأثيره التحولات التي أحدثتها الحربان العالميتان الأولى والثانية. ذلك أن النظام الذي أسسه الغرب بعد الحربين ما زال هو المسيطر حتى الآن، أما اليوم فنحن أمام بناء نظام عالمي جديد بالكامل.

 

لم نشهد منذ خريطة النفوذ العثمانية تحولًا كهذا!

 

ونحن في تركيا، بينما نبدأ بالكاد بالتخلص من مخاوف الانهيار الكبير الذي أعقب الحرب العالمية الأولى، فإن تاريخ "نهضة تركيا" الذي نصنعه اليوم قد يرسم خريطة نفوذ أوسع من تلك التي رسمها العثمانيون.

ولهذا السبب تدور كل هذه النقاشات الداخلية، ولهذا تتكاثر محاولات ضرب تركيا من الداخل، ولهذا يتم تبنّي خطط "إيقاف تركيا" داخليًا وخارجيًا بهذا الشكل الكبير. لكننا اليوم نرى بوضوح أن تلك الخطط باءت بالفشل. فكلما اتسعت رقعة الانقسام والانهيار في موازين القوى العالمية، كلما اتسعت المساحة الخالية أمام تركيا لتتقدم فيها بقوة.

 

اليسار الأطلسي و"المحافظون الأطلسيون" لم يستطيعوا قراءة هذا التحول!

 

إن سبب الغليان داخل أذرع النظام العالمي القديم في الداخل التركي يعود إلى ذلك. ولكن انتهى زمنهم. لم ينته فقط بالنسبة للأحزاب السياسية والهويات السياسية، بل انتهى أيضًا بالنسبة للتنظيمات الإرهابية.

وبهذا المعنى، فقد وصل أيضًا حزب الشعب الجمهوري، وكوادر "اليسار الأطلسي"، و"المحافظون الأطلسيون"، وتنظيم "بي كي كي" الإرهابي، والهياكل البعثية، وكل محيطهم، إلى نهايتهم.

تركيا ستكون إحدى المراكز الكبرى لهذا العالم الجديد، وهي تواصل تعزيز قوتها استعدادًا لذلك. فمنذ عشر سنوات وهي تسعى إلى تحقيق تحول استثنائي في المجالات الأمنية، والعسكرية، والسياسة، والبيروقراطية، والمجتمع المدني. كما أنها تبني "قوة إقليمية عظمى" تمتد من آسيا الوسطى إلى أفريقيا، ومن البحر الأسود إلى المحيط الهندي.

وأثناء القيام بكل ذلك، فإن تركيا ستقوم بتصفية كل ما قد يعيق طريقها في العاصفة الكبرى المقبلة. وحتى إن لم تفعل تركيا، فإن حركة التاريخ ستقوم بذلك عنها.

انتهت العولمة الغربية... التحول الأخلاقي لـ"الدولة"... وظهور "الأحزمة العظمى"!

 

لقد دقّ ترامب المسمار الأخير في نعش النظام العالمي الغربي. أعاد الولايات المتحدة إلى رموز تأسيسها الأصلية، وحوّلها من العولمة إلى الإقليمية. كان يعلم جيدًا أن الهيمنة الكونية لم تعد ممكنة.

في زمنٍ باتت فيه الصين بهذه القوة، والهند -مستعمرة الأمس- بهذه القوة، وروسيا تهدد أوروبا علنًا، وأوروبا تتجه نحو تفكك داخلي خطير، وتركيا تصعد إلى الساحة مدفوعة بذاكرة تاريخية وطموحات جغرافية كبرى، أصبح واضحًا أن الهيمنة العالمية للغرب لم تعد ممكنة.

كل دولة ستعود إلى جيناتها الأصلية. وكل أمة ذات تراكم تاريخي وطموحات كبرى ستعود إلى ادعاءاتها القديمة. أما الشعوب التي تمكنت من العودة إلى رموزها الوطنية بعد حقبة الاستعمار، فستنجح في بناء "أحزمة عظمى" عبر شراكات إقليمية قائمة على هذه الحقيقة.

سوف يشهد العالم تحولاً أخلاقيًا للدول يتمثل في حماية هويتها وكيانها، في مواجهة الجشع الكوني للعولميين الذين أنكروا مفهوم "الدولة" و"الأمة" وحوّلوا الجماهير إلى أدوات استهلاكية وآليات للنهب.

 

الشعوب التي تصنع التاريخ تعود إلى الساحة... الاتحاد الأوروبي قد ينهار فجأة

 

هذا التحول سيؤدي إلى زلازل كبرى، وصراعات عنيفة، وتصفيات حساب ضخمة، وتغييرات في موازين القوى، وانحرافات في مجرى التاريخ، بل وإعادة رسم خرائط الجغرافيا وحتى حدود بعض الدول.

أما الدول ذات أنظمة الدفاع الهشة ومراكز الحكم الضعيفة، فستنهار بشكل مفاجئ ومأساوي. وسنشهد إعادة فرز للأمم التي تصنع التاريخ؛ بعضها سيتلاشى، وبعضها سيعود إلى الواجهة.

في هذا السياق، سيكون من الصعب على الاتحاد الأوروبي أن يصمد. فبعد أن تلقى ضربات موجعة من الولايات المتحدة وأُجبر على التخبط والارتباك، سيشهد تفككًا داخليًا خطيرًا قد يحدث فجأة. وستعود الدول الأوروبية المركزية إلى رموزها الوطنية، وستفصل حكايات مستقبلها عن مشروع الوحدة الأوروبية.

 

هل تتحول الحرب الجيوسياسية بين أمريكا والصين إلى حروب ساخنة؟

الحرب التجارية بين الولايات المتحدة والصين ليست مجرد معركة اقتصادية، بل هي مواجهة جيوسياسية تهدف إلى تقاسم مناطق النفوذ العالمية. بينما تختبر كل من الدولتين الأخرى وتدفعها إلى حدودها القصوى وسط حالة من الغموض بشأن أين وكيف سيتوقف هذا التصعيد، قد تنفتح أبواب حرب ساخنة كبرى في المحيط الهادئ أو جنوب آسيا.

قد تكون الولايات المتحدة تحاول الآن دفع الصين إلى حرب قبل أن تكون الأخيرة جاهزة لها. وقد يكون أول ضحايا هذا التصعيد تايوان أو الفلبين. لقد شكلت الرسوم الجمركية التي فرضتها الولايات المتحدة مؤخرًا صدمة كبرى لحلفائها التقليديين: اليابان وكوريا الجنوبية.

 

فلو لم يتم التراجع عن هذه الرسوم، لكان من الممكن أن تتفكك حتى البنية التحالفية بين هذه الدول وأمريكا، مما كان سيفتح الباب أمام معادلات قوى جديدة في شرق آسيا لصالح الصين. ويبدو أن تحذيرات جدية صدرت من داخل الولايات المتحدة إلى ترامب، مما أوقف هذا "التدمير" مؤقتًا.

 

ما هي نتائج عزلة الولايات المتحدة؟

سيكون من الحكمة متابعة النتائج الجيوسياسية والانعكاسات على معادلات القوى الناتجة عن فرض الولايات المتحدة رسومًا جمركية بنسبة 125% على الصين، ورد الصين بالمثل. لا نعلم بعد مدى نجاح محاولة الولايات المتحدة للتضحية بأوروبا من أجل فصل روسيا عن الصين في المحور الأوسط.

لكن روسيا ليست من النوع الذي يُخدع بسهولة. فلديها حساب تاريخي عميق مع الغرب، وهي من أكثر الدول المستفيدة من تفتت موازين القوى الحالية. ومع ذلك، فإنها تخطط بعناية لمستقبلها بعيد المدى. وهي دولة تدرك جيدًا كيف أن ترامب جعل الولايات المتحدة تعيش عزلة غير مسبوقة.

 

حزب الشعب الجمهوري يثير تمردًا داخليًا ويضرب تركيا... حلّ محل تنظيمي "بي كي كي" و"غولن" الإرهابيين

 

في خضم هذا التحول العالمي، أصبحت تركيا، عبر خطواتها الذكية والحكيمة، واحدة من أكثر الدول استعدادًا لعالم المستقبل. وتمّ القضاء على تنظيم غولن الإرهابي الذي كان يمثل أقوى أداة للتدخل الداخلي.

وفي إطار مكافحة تنظيم "بي كي كي" الإرهابي، اتُخذت خطوات استثنائية، وتمّ دفعه خارج الحدود. واليوم تُتخذ خطوات دائمة من أجل تصفيته بالكامل في العراق وسوريا.

أما محاولات ملء هذا الفراغ عبر "التدخل السياسي" وإرهاق تركيا داخليًا فقد باتت أيضًا هدفًا للتصفية. تحركات حزب الشعب الجمهوري التي وصلت إلى حد "التمرد الداخلي" تهدف بشكل مباشر إلى ضرب تركيا من الداخل.

 

حزب الشعب الجمهوري بدأ حربًا داخلية... إسرائيل تهاجم من الخارج... وكل ذلك ضمن أجندة واحدة!

 

لقد انفصلت قيادة حزب الشعب الجمهوري عن الهوية التركية بشكل واضح، وأصبحت تمارس صراحة حربًا داخلية. وبالتالي، لم تعد المسألة تتعلق بالديمقراطية أو الحرية أو السياسة، بل أصبحت حربًا ضد تركيا نفسها، ستنتهي بالفشل.

وفي الوقت نفسه، فإن ضربات إسرائيل لسوريا، وتهديدها العلني لتركيا، وانخراطها في حرب غير مباشرة مع تركيا في عموم المنطقة، هي جزء من أجندة "إيقاف تركيا".

محاولة الولايات المتحدة توجيه السلاح إلى تركيا باءت بالفشل "مؤقتًا" نتيجة تدخل ترامب. لكن من الواضح أن إسرائيل لن تتوقف، وستحول معركتها مع تركيا إلى هدف وجودي.

 

سيتم تصفية حزب الشعب الجمهوري مثلما صُفّي "بي كي كي" و"غولن"... إسرائيل واليونان ستواجهان العجز

 

لم يبق أمام تركيا الآن سوى قوى ضعيفة: في الداخل حزب الشعب الجمهوري ومكوناته، وفي الخارج إسرائيل وقبرص الرومية واليونان. وهذه القوى لن تكون قادرة على الوقوف أمام تركيا، التي لم تتردد حتى في تحدي القوى الكبرى والمراكز العالمية.

كما تمت تصفية تنظيمي "بي كي كي" و"غولن" الإرهابيين، سنشهد تصفية حزب الشعب الجمهوري أيضًا، وسنشهد عجز إسرائيل واليونان أمام تركيا واستسلامهما.

 

ماذا أعلن أردوغان؟ تركيا لا يمكن إيقافها!

كان خطاب الرئيس رجب طيب أردوغان يوم الأربعاء بمثابة بناء أمواج تاريخية تمتد من الماضي إلى المستقبل، وعبّر بوضوح عن التحديات الكبرى التي تواجه تركيا، وعن حساباتها الجريئة للمستقبل. وقد قال:

"إن النظام العالمي الذي تأسس بعد الحرب العالمية الثانية يتداعى من أساسه. هناك إعصار ضخم قادم سيؤثر على الجميع. تركيا واحدة من أفضل الدول في قراءة هذا المشهد وإدارته. لقد أصبحت تركيا، التي كانت تُقصى في الماضي، إحدى الدول المؤسسة للعهد الجديد. لن يكون هناك أي معادلة دون تركيا."

 

من الآن فصاعدًا، لن نناقش ما قد يحدث فحسب، بل سنراقب أيضًا تصفية التهديدات الداخلية، وانحناء القوى التي تتحدى تركيا إقليميًا مثل إسرائيل.

كل المعطيات الجارية والمقبلة تقول شيئًا واحدًا: تركيا لا يمكن إيقافها.

عن الكاتب

هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس