ياسين أقطاي - يني شفق

بعد ستين عاماً في سوريا، حيث تحقَّقَت ثورةٌ شعبية أوصلت الشعب إلى سدة الحكم، وبرزت إمكانية تحقيق الاستقرار في البلاد، بدأت إسرائيل تستشعر تهديداً من هذا المشهد. واستجابةً لهذا التهديد المزعموم، انطلقت كالثور الهائج تهاجم كلَّ تحرك، حتى بدأت تكتشف أسلحةً في سوريا لم يسبق أن رصدتها من قبل، وتستهدف مواقع عسكرية لم تعهدها سابقاً.

لقد بات الأمر يُعلَن صراحةً: إنّ سوريا المستقرة، وسوريا التي يحكمها شعبها، تُعد تهديداً لإسرائيل. وما هذه الهجمات إلا نتيجة طبيعية لهذا التصور. إنّ اعتبار الاستقرار ورفاه الشعوب وأمنها تهديداً بحد ذاته، يكشف بوضوح أنّ أفظع المجازر وأكثرها وحشية في التاريخ الحديث والتي شهدتها سوريا في العقود الأخيرة، كانت في الواقع جزءًا من أمن إسرائيل.

تخيلوا دولة لا يمكن تحقيق رفاهيتها وأمنها إلا من خلال تحول جميع الدول المحيطة بها إلى ساحات حرب ودمار. فهل توجد دولة أخرى في التاريخ ضمنت أمنها بهذا المفهوم؟ ولهذا السبب بالذات، تعتبر إسرائيل كيانا استثنائيًا شاذًا في التاريخ، ولهذا السبب بالتحديد أيضًا، لن تتمكن من البقاء طويلاً.

ومنذ اليوم الأول لانتصار الثورة الشعبية في سوريا، شنَّت "إسرائيل" هجماتٍ على جميع الأهداف التي حددتها مسبقاً، وركّزت خصوصاً على قصف جميع المناطق التي يُحتمل أن تنشئ فيها تركيا قواعد عسكرية، سواء تم ذكرها صراحة أو جرى تداولها في الأوساط السياسية أو الإعلامية. ولم تغفل عن إبلاغ وسائل إعلامها ومسؤوليها بأن هذه الضربات موجَّهة بشكل غير مباشر إلى تركيا وتحمل رسائل واضحة إليها.

وفي الآونة الأخيرة، صرَّحت "إسرائيل" بشكلٍ أكثر وضوحاً بأنها ترى في النفوذ التركي المتنامي في سوريا بعد الثورة تهديداً لها. ولكن لماذا؟ إن الخطر الذي تمثله تركيا على "إسرائيل" لا ينبع من تحركاتها أو تصريحاتها أو خططها المُعلَنة، بل إن تركيا تظلُّ خطراً عليها حتى لو لم تفعل شيئاً، فطبيعة التهديد التركي لا تختلف عن طبيعة التهديد الذي يمثله الشعب السوري بحد ذاته. وهذا بالطبع تصورٌ ناتج عن عقلية "إسرائيل" البارانوية التي تفتقر إلى أي منطق، وتنبع من بالكامل من جنون الارتياب وعداوةٍ جوهرية متأصلة.

وبهذه المناسبة، أصبح هناك أمرٌ جلي لا لبس فيه؛ لقد كانت إسرائيل حتى الأمس القريب تعتبر الأراضي السورية ملكاً فعلياً لها. وذلك لأن نظام الأسد، رغم استناده إلى الدعم الإيراني، لم يخرج يوماً عن سيطرة إسرائيل، بل ظلّ يُمارس الحكم كتابع لها بما يخدم مصالحها. وكان كل مواطن سوري يُقتَل على يد هذا النظام يعني نقصًا في أعداء إسرائيل. ولهذا فإن أولئك الذين يذرفون الدموع على نظام الأسد تحت شعار "محور المقاومة"، يجدر بهم أن يفتحوا أعينهم ويعيدوا قراءة المشهد من جديد.

وكانت سوريا، قبل غزة، البند الأبرز على أجندة رئيس الوزراء الإسرائيلي الصهيوني المجرم "نتنياهو" خلال زيارته الثانية للولايات المتحدة بعد فترة وجيزة. فمن واقع خسارته لسوريا، أمام تركيا التي يراها عدواً أكثر خطورة، توجه إلى "ترامب" يشكو ويستنجد. وما أكده ترامب خلال هذه الزيارة عزز موقفه الثابت والمتسق تجاه سوريا منذ البداية. فسياسته الداعية لسحب القوات الأمريكية من سوريا، والتي يتبناها منذ ولايته الأولى، لا تتناسب البتة مع السياسة الإسرائيلية تجاه سوريا.

ولا يخفى على أحد أن هناك خلافاً جوهرياً بين الطرفين في هذا الشأن، إلا أن إرادة "ترامب" في ولايته الأولى اصطدمت بمقاومة البنتاغون ووكالة الاستخبارات المركزية، بل وباعتراضات من داخل الحزب الجمهوري نفسه، فلم تتحقق بالكامل. ولم يكن ممكناً لتلك الاعتراضات أن تقدم أي مبرر سوى "أمن إسرائيل" في سوريا. ولكن يبدو أن "ترامب" في ولايته الثانية مصمم على موقفه رغم كل الأطراف، بما فيهم إسرائيل نفسها. إن رد "ترامب" على طلب "نتنياهو" مساعدته ضد تركيا يُقدِّم دليلاً قوياً جديداً على معالم "الترامبية" التي بدأت تتضح أكثر فأكثر.

ويصرح ترامب بأن الثورة في سوريا هي بوضوح من إنجاز تركيا، وبالأخص من إنجاز الرئيس أردوغان، ويعتبرها حقاً مشروعاً له. وفي المؤتمر الصحفي المشترك مع نتنياهو، وصف أردوغان كقائدٍ تمكن من إنجاز ما عجز عن تحقيقه آخرون في سوريا منذ ألفي عام، معبراً عن تقديره له، في الوقت ذاته كان ذلك بمثابة تحذير وتنبيه لإسرائيل ولبنيامين نتنياهو ليأخذوا حذرهم. وعندما أعلن عن استعداده للقيام بدور الوساطة بين أردوغان ونتنياهو، ذكر أن هذا يتطلب من نتنياهو أن يكون أكثر عقلانية. ويمكن اعتبار هذه التصريحات على أنها أول اعتراض جاد من الولايات المتحدة على المطالب الإسرائيلية المتكررة والمعتادة بأن تنصاع واشنطن لإسرائيل دون تردد.

وفي المؤتمر الصحفي الذي أعلن فيه ترامب عن فرض رسوم جمركية جديدة، أعرب عن رغبته في أن يُنظر إلى هذه الإجراءات على أنها جزء من نضاله من أجل "الاستقلال الأمريكي"، وهو ما يحمل في طياته سخرية مريرة. ولكنه يكشف عن حقيقة واضحة: لا يمكن لأي دولة أن تكون ذات استقلالية مطلقة أو قوة مطلقة في السياسة الخارجية مهما بلغت قوتها. ويرى ترامب أن الولايات المتحدة، التي تُعتبر القوة العظمى في العالم، قد فقدت قوتها بشكل تدريجي، ويحاول اتخاذ التدابير اللازمة لمعالجة هذه الأزمة ضمن إطار معقول. ويسعى لسد الثغرات التي تستنزف موارد أمريكا، ويحدّد تحالفات جديدة وعداوات جديدة وفقاً لذلك. وفي هذا السياق، يبدو أن ترامب يرى في تركيا حليفًا جديدًا وقويًا. وبالتالي فإن تهديدات نتنياهو لا تهمه كثيرًا. ما يهم ترامب هو من يأتي بالمنفعة أو الضرر للولايات المتحدة.

ونأمل أن يتيح هذا التقارب لتركيا فرصة لإظهار مدى ابتعاد إسرائيل عن العقلانية في قضية غزة.

فهل هذا تفاؤل مفرط؟ هل يستطيع ترامب، كما فعل في سوريا، أن يُعلم إسرائيل كيفية التحلي بالعقلانية في قضية غزة؟ وإن فعل، هل سيبقى هناك شيء يسمى إسرائيل؟ أليست إسرائيل تجسيداً لهذا اللاعقلانية بعينها؟

عن الكاتب

ياسين أقطاي

قيادي في حزب العدالة والتنمية التركي الحاكم


هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس