د. سمير صالحة - أساس ميديا

استعار الأتراك عبارة “جنتا” (Junta) من الإسبان، وهم يستخدمونها منذ عقود في توصيف القيادات والمجالس العسكرية الانقلابية التي أدارت شؤون البلاد 4 مرّات بين 1960 و1983. لا أحد يريد سماع مثل هذا التوصيف الذي استخدمه اليمين التركي المحافظ والقوميّ لعقود لأنّه كان المستهدف الأوّل فيه، وكان يُحمّل اليسار العلماني مسؤوليّة الاستفادة منه.

رئيس حزب “الشعب الجمهوري” أوزغور أوزال هو الذي يحارب بسيف حزب العدالة هذه المرّة، مستخدماً المصطلح في مواجهة الحزب الحاكم، داعياً إيّاه إلى احترام إرادة الشعب، ويردّ المتحدّث باسم حزب العدالة والتنمية عمر تشليك بالقول: “في القاموس السياسي الديمقراطي يُقال إنّ المجلس العسكري يساوي حزب الشعب الجمهوري”.

أوزال هو من يدعو إردوغان وحزبه إلى “الكشف عمّا إذا كان قد حصل على موافقة من إدارة الرئيس دونالد ترامب بشأن اعتقال رئيس بلدية إسطنبول أكرم إمام اوغلو”، ووزير الخارجية هاكان فيدان هو من يردّ عليه: “أوزال كان يأمل الحصول على المساعدة من القوى والعواصم الأجنبية خلال الأسابيع الماضية قائلاً لها نشعر بالتخلّي عنّا”.

طغمة عسكريّة بزيّ مدنيّ

 وَسَّعَ حزب الشعب مساحة التحرّك المعارض في مواجهة الحزب الحاكم، وتعهّد بمواصلة الاحتجاجات على خلفيّة توقيف رئيس بلدية إسطنبول أكرم إمام أوغلو قبل 3 أسابيع:

– تظاهرات وتجمّعات شعبية في الأقضية ومراكز المدن مرّة على الأقلّ في كلّ أسبوع.

– حملة جمع توقيعات تتجاوز 27 مليون توقيع، وهو ما حصل عليه إردوغان في آخر انتخابات رئاسية قبل عامين لتسريع مطلب الذهاب نحو انتخابات مبكرة.

– التصعيد في النبرة والأسلوب لدفع الحزب الحاكم نحو إطلاق إمام أوغلو بعد تصويت غير رسمي أجراه الحزب في عموم تركيا، وحصل فيه على دعم ما يقارب 15 مليون مواطن لترشيح “أكرم إسطنبول” لمعركة الرئاسة المقبلة.

– التمسّك بدعوات مقاطعة بعض السلع والشركات والمؤسّسات الإعلامية التي تقول المعارضة إنّها محسوبة على حزب العدالة أو تدعمه وتتجاهل نشر أخبار المعارضة وما يجري في الساحات.

– دفع الأمور باتّجاه العودة للنظام البرلماني الذي تمّ التخلّي عنه قبل 8 سنوات بعد انتقال البلاد إلى النظام الرئاسي.

– لعب ورقة جيل الشباب ضدّ حزب العدالة بعدما أعلن أوزال أنّ الشباب الذين كانوا قرّروا حزم حقائبهم والمغادرة بسبب حالة اليأس تراجعوا عن ذلك ودخلوا معركة المواجهة.

يردّد أوزال: ” تحكم تركيا اليوم طغمة عسكرية في زيّ مدني تخاف من الانتخابات ومن معارضيها”. “الزم حدودك” هو ما قاله وزير الخارجية التركي هاكان فيدان لزعيم المعارضة، وهو يصعّد في النبرة واللهجة والأسلوب ضدّ الرئيس رجب طيّب إردوغان. تعكس مؤشّرات جديدة ارتفاع سخونة البارومتر السياسي والحزبي بين الحكم والمعارضة.

لم تُعمّر طويلاً رسائل الغزل ولقاءان بين إردوغان وأوزال في منتصف العام المنصرم على طريق التهدئة السياسية. لم يرَ إردوغان نتائج الانتخابات المحلّية الأخيرة هزيمة، وأوزال بالمقابل الذي كان يردّد قبل أشهر: “نحن لن نطالب بانتخابات مبكرة إلّا إذا كانت مطلباً للشعب”، يريد سحب ورقة “الإرادة الشعبية” التي لعبها العدالة والتنمية لسنوات، والبناء على نتائج الانتخابات المحليّة الأخيرة وارتفاع شعبيّة حزبه حسب غالبيّة استطلاعات الرأي للمطالبة بالذهاب مجدّداً إلى الصناديق.

حبّة الفجل الكبيرة

المعارضة، كما يقول أوزال، مستعدّة لخوض انتخابات الرئاسة المبكرة في حزيران المقبل، وإذا لم يتمكّنوا من ذلك فنحن مستعدّون لخوضها في النصف الأوّل من شهر تشرين الثاني.. ندعوكم إلى الاحتكام مجدّداً إلى إرادة الشعب. “إن كنتم تتحلّون بالشجاعة فستأتون إلى الانتخابات المبكرة”. هذا ما يطالب به أوزغور أوزال: “نحن في المعارضة منذ أكثر من 4 عقود فلِم تخافوننا وأنتم في الحكم منذ 23 عاماً؟”.

تحتاج الانتخابات المبكرة، بحسب الدستور التركي، إلى تفاهمات تحت سقف البرلمان بين الحكم والمعارضة تمنح إردوغان حقّ الترشّح من جديد، أو إلى قرار رئاسي يحلّ البرلمان ويتنحّى إردوغان معه عن منصبه ولا يحقّ له عندها الترشّح مجدّداً للرئاسة. فهل يمنح الرئيس التركي المعارضة مثل هذه الفرصة ويرضخ لضغوطاتها وقرار توسيع رقعة الاحتجاجات والمقاطعة منذ 19 آذار المنصرم؟

خيّب “الشعب الجمهوري” آمال إردوغان الذي كان يعوّل على خلافات حزبية داخلية تتفاقم بين قادة الحزب. “صدقوني، الله حمى هذا الشعب من هذا الحزب. تخيّلوا لو أنّهم لم يكتفوا بإدارة بعض البلديات، بل سيطروا على إدارة البلاد، فكيف كان سيكون حالنا؟”. لكنّ أوزغور أوزال نجح في قلب الطاولة والهيمنة على المسار الحزبي الجديد بعد انتخابه رئيساً للحزب من جديد. تدفع الرياح سفينة أوزغور أوزال بالاتّجاه الذي يريده. وإذا لم يخرج أكرم إمام أوغلو من سجنه فسيكون مرشّح للمعارضة الأوفر حظّاً في معركة الرئاسة المقبلة.

بعكس ما كان يحدث حتّى الأمس القريب، المعارضة هي التي تفرض الأجندات على نقاشات الداخل التركي. 61 في المئة من المستطلَعين لا يصوّبون ما جرى في 19 آذار المنصرم وتوقيف رئيس بلدية إسطنبول على هذا النحو. لكنّ ذلك لا يعني أنّ دعم حزب الشعب سيكون شِيكّاً على بياض، وسيقفون بجانبه بعد الكشف عن المزيد من ملفّات وقضايا الفساد والرشى داخل بلديّات المدن الكبرى المحسوبة عليهم.

فرصة إردوغان الباقية هي الكشف عن المستور تحت العباءة، وما تحدّث به عن “حبّة الفجل الكبيرة التي تنتظر حزب الشعب وقادته”. لكنّ الكرة هي في ملعب زعيم “حزب الحركة القومية” دولت بهشلي، الذي عوّدنا منذ سنوات طويلة صناعة مفاجأة آخر لحظة في قرار الدعوة إلى انتخابات مبكرة يريدها المواطن التركي. قد يفعلها مجدّداً إذا ما شعر أنّ الانسداد السياسي الحاصل سيكون مكلفاً لتركيا.

 

عن الكاتب

د. سمير صالحة

البرفسور الدكتور سمير صالحة هو أكاديمي تركي والعميد المؤسس لكلية القانون في جامعة غازي عنتاب وأستاذ مادتي القانون الدولي العام والعلاقات الدولية في جامعة كوجالي


هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس